تعلقت مشاعر "سمير" بابنة الجيران "لبنى" وخفق قلب الطالب الجامعي بالحب، وانتظر بفارغ الصبر أن تدرك محبوبته سن الرشد، ليتقدم إلى أهلها ويطلبها للزواج، وفي الموعد المرتقب ذهب بصحبة والدته وشقيقته الكبرى، وقوبلت زيارتهم بالترحيب، ولم يمانع والد الفتاة أن تتم الخطبة، واشترط عقد القران بعد حصول خطيب ابنته على مؤهله، والالتحاق بوظيفة مناسبة، وتأثيث شقة الزوجية، وأن تتم هذه الخطوات في وقت قياسي. اعتاد سمير أن يطرق باب خطيبته في موعد أسبوعي محدد، وتجلس معه بحضور أهلها في غرفة الضيوف، ويستأذن في الانصراف بعد ساعة واحدة، وقد تسرب إليه الملل من ثرثرتهم، وتذكيره بضرورة التحرك السريع لإتمام الزواج، وغالباً ما كان يطمئنهم بأنه سيحصل على وظيفة في أقرب وقت، بينما خطيبته صامتة، وترتسم على شفتيها ابتسامة باهتة، وأدرك أنه لن يتبين صوتها إلا بعد الزواج، وتدريجياً تبخرت مشاعر الحب الجارفة من قلبه.
كانت لبنى قد اكتفت بالحصول على الثانوية العامة، وباتت تحلم بارتداء ثوب الزفاف، وتنتظر فتى أحلامها الذي يوفر لها الثراء والسعادة، وتفيق على حياتها المتواضعة في منزل والدها الموظف البسيط، وحين تقدم إليها "سمير" وافقت عليه، خشية أن يطاردها يوما ما شبح العنوسة، ولكن طموحاتها لم تتوقف في أن تسكن القصور، وترتدي أفخر الثياب، وتطوف العالم مع عريسها، مثلما ترى بطلات الأفلام والدراما التلفزيونية. أدرك سمير أن خطيبته الحسناء مثل سائر الفتيات الأخريات، لا تدرك من الحياة شيئا سوى أن تصبح عروسا تتباهى بثوبها الأبيض وحليها في ليلة الزفاف، وتنبه من خلال حواراته الخاطفة معها، أن لديها طموحات تفوق الخيال، وتفتقر إلى العقلانية، فالرجل في نظرها هو من يمتلك المال، ويحقق به أحلامه مع من اختارها قلبه، ولا تجد في الكفاح والتعب سوى التعاسة والفقر، وأنها لا تطيق الحياة مع زوج ليست لديه رغبة في جني الثروات، وتغيير نمط معيشته إلى الأفضل. حاول سمير أن يقنعها أن المستقبل مازال أمامهما، وبإمكانهما تحقيق أحلامهما، وأن الزوجة الصالحة هي من تقف خلف زوجها، وتدعمه في وقت الشدة، وأنه سيبذل كل جهده لإسعادها، ولن يجعلها تحتاج إلى أي شيء، مادام رباط وثيق من المحبة والإخلاص يجمعهما، وعليها ألا تنسى أبدا الظروف القاسية التي عاشتها، طالما أرادت أن تكمل رحلة عمرها، وأن تحقق أمنياتها في حدود المستطاع، وأن تعتبرها مقياسا لحياة أفضل في المستقبل. أدركت لبنى أن خطيبها ليس له طموح، ومجرد شخص يريد أن يتزوج فقط، وينجب منها أطفالاً، ويعيد ذات الحياة التي عاشتها بين براثن الفقر، وساورها القلق أن تنتهي أحلامها، مادامت الفرصة غير سانحة ليتقدم لها شاب ثري، ويبقى واقعها التعس ماثلا أمام عينيها، ويذكرها دوما بأنها فتاة فقيرة، ولا تحمل شهادة جامعية، وأن جمالها ليس كافياً لتحقق أحلامها، وعليها أن تقبل مرغمة بنصيبها مع زوجها المرتقب.
الهاتف المغلق
مضت على فترة الخطبة أكثر من عام، ونصحه بعض الأصدقاء بالسفر إلى الخارج، للبحث عن فرصة عمل جيدة، ولكنه رفض الفكرة تماماً، وقبل بوظيفة حارس "كمباوند" في أحد الأحياء على أطراف القاهرة، واستطاع أن يقنع والدته وشقيقته الكبرى، ببيع قطعة الأرض التي تركها والده المتوفى، ليؤثث شقة الزوجية التي استأجرها في منطقة بعيدة عن سكنهم، وحتى يضمن ألا يزعجه أهل "لبني" بزياراتهم المتكررة، فينغصوا عليه حياته، ويتدخلوا في تفاصيل علاقته بزوجته، وبذلك يتجنب الصدام معهم. رضخت "لبنى" للأمر الواقع، واعتبرت "سمير" فتى أحلامها الذي لن يقبل أحد بالزواج منها سواه، فجمالها وحده لا يكفي لإقناع أبناء الأثرياء، ليطرقوا باب منزلها المتواضع، وقالت لخطيبها: "أنا موافقة على ما تفعله، ولكن في المستقبل أريد شقة في منطقة راقية، وبالنسبة للأولاد لابد أن يدخلوا مدارس خاصة، ويتخرجوا من أرقى الجامعات، وهذه مسؤوليتك وحدك، لأنني لا أعمل في وظيفة، ولا أملك مالاً أساعدك به". أنصت سمير باهتمام إلى شروط "لبنى" وكاد أن ينفجر في الضحك، ليس من السعادة، بل لحظه العاثر الذي أوقعه في فتاة لا تكف عن أحلامها الغريبة، والتي لا تمت إلى الواقع بصلة، وبدوره طمأنها إلى أنه سيبذل كل طاقته ليحقق طموحتها، وعليها ألا تستبق الأحداث، وأن تتمهل في خطواتها، حتى لا تضيع شبابها في أمنيات أكبر من امكانياتها، وإذا كان لها رأي آخر، فعليها أن تقوله بوضوح قبل فوات الأوان. كان الحديث بينهما يدور في همس، ولكن والدة "لبنى" استرقت السمع، وتدخلت قائلة: "اسمع يا بني إذا كنت ناوي تجوع ابنتي، وتعيشها في الفقر، فالأفضل أن تأخذ هداياك، وتذهب إلى حال سبيلك" ولم يجد سمير شيئا يقوله، وانتفض واقفاً، وغادر مسرعاً إلى شقته، وأوصد على نفسه الباب، وتوالى رنين هاتفه المحمول، دون أن يجيب، وظهر اسم خطيبته على الشاشة، فقام بإغلاقه، وعقد عزمه على إنهاء الخطبة في اليوم التالي. تأهب سمير للخروج إلى عمله، وفوجئ بخطيبته تعترض طريقه، وتحاول الاعتذار عما بدر من والدتها ليلة أمس، وأنها مثل أي أم تريد سعادة ابنتها، وعليه أن يتحمل كلامها لأنها في مقام والدته، وتهللت أساريرها حين لمحت شبح ابتسامة على وجهه، وأدركت أنها استردته مرة أخرى، وقررت أن تخفي طموحاتها خلال هذه الفترة، وعندما يصبح زوجها، ستدفعه نحو تحقيق أحلامها. مرت عدة أيام، وذهب سمير إلى منزل خطيبته، واجتمع بأهلها ليحدد موعد عقد القران وليلة الزفاف، لا سيما أنه انتهى من تأثيث الشقة، وحينها أطلقت والدة لبنى "زغرودة" مدوية، وأسرعت إلى المطبخ لتحضر أكواب العصير، بينما تحركت مشاعره من جديد نحو الفتاة التي اختارها قلبه منذ سنوات، وكأنه استرد شيئا ثمينا فقده في جلسات الثرثرة مع أهلها، وأقنع نفسه أن عروسه المرتقبة، قد ثابت إلى رشدها، وكفت عن الإغراق في أحلامها التافهة.ليلة العمر
تباينت مشاعر لبنى بين الفرح والترقب، وطردت عن تفكيرها طموحاتها الخيالية، حتى لا تفسد سعادتها في التأهب لحفل الزفاف، وتتزوج مثل أي فتاة، وترتدي ثوب العرس الأبيض، فهذه ليلة في العمر يصعب تكرارها، وعليها أن تعيش التجربة على أرض الواقع، وتختبر صدق فتى أحلامها، وهل سيوفر لها احتياجاتها كما وعدها، أم ستكمل رحلة حياتها في شقة متواضعة، وتضيع سنوات شبابها، وتتحسر على جمالها الغابر. وأقيم حفل الزفاف، بحضور الأهل والجيران، وسرت البهجة في قاعة الأفراح، واتجهت الأضواء نحو العروسين، وبعد انتهاء المراسم، استقل سمير سيارة مع عروسه، لقضاء شهر العسل بالإسكندرية، وبعد ثلاثة أيام عادا إلى القاهرة، واستقرت حياتهما في القفص الذهبي، وتدريجيا سقط قناع الرومانسية والبراءة عن وجه لبني، وكشفت عن تبرمها المتكرر من شقتها المتواضعة، وبالغت في تنمرها وغيرتها الزائدة. أدرك سمير أنه وقع في شرك زوجة "نكدية" لا تصفو نفسها إلا لحظات قليلة، ثم تعود إلى سابق عهدها مع افتعال المشاجرات، والشكوى الدائمة من حياتها البائسة، وحاول أن يسترضيها بشتى السبل، دون فائدة، حتى انفجرت ثورة البركان الهادئ، وواجهها بحقيقة أنها فتاة تافهة، ولا تصلح لتحمل مسؤولية أسرة، وكل غايتها أن تعيش في أوهام الثراء والتطلعات الفارغة، ولا تقدر تعبه وشقاءه من أجل أن يوفر لها احتياجاتها، وعليها أن تختار بين الوهم والحقيقة.الزوجة الهاربة
ومضت الأعوام بطيئة، يتخللها الشجار ومفاوضات الصلح، وحرص سمير على إرضاء زوجته قدر استطاعته، لا سيما بعد أن أنجبت له طفلا، ولكنها أهملت شؤون منزلها، وتربية ابنها الوحيد، ورفضت الإنجاب مرة ثانية، وتعللت بأنها لا تريد لهم أن يعيشوا حياة بائسة، طالما أن والدهم دخله بسيط، ولا طاقة له على رعاية طفل واحد، وحينها ستصبح كارثة لا يمكن السيطرة عليها. ودخل زواج سمير ولبنى عامه العاشر، وفي أحد الأيام عاد من العمل إلى منزله، ولم يجد زوجته وابنه، ودار في الغرف يبحث عنهما، ولاحظ اختفاء ملابسهما، وأدرك أنها هربت إلى بيت أهلها، وطوال الطريق ظل يفكر في تصرفها المفاجئ، ولم يجد مبررا لفعلتها، وحين فتحت والدتها الباب، اعترضته قائلة: "ابنتي لا تريدك، والأفضل أن تطلقها، وكل واحد يروح لحال سبيله". عقدت الصدمة لسانه، وعجز عن التفكير، وهبط السلم ببطء، وذهب إلى منزل والدته، وأخبرها بما حدث، ولم يجد لديها شيئا يشفي غليله، عندها نصحته بأن يطلق زوجته، وأن يبحث له عن أخرى، وعاد إلى شقته، وأعياه التفكير في البحث عن حل، وراودته أفكار شيطانية أن يستدرجها إلى الشقة مرة أخرى، وينتقم منها حتى تعود إلى رشدها، وترضى بحياته معه. وتنامت مشاعر الانتقام في داخله، كلما امتنعت عن الرد على مهاتفاته، ولكنه لم يتوقف عن المحاولة، ووتيرة الغضب تسري كالجمر في جسده، حتى ردت عليه، وسألته عما يريده، فأقنعها بلقائه في الشقة، للتفاهم على إجراءات الطلاق، وأنه سيترك لها كل شيء، ويبحث لنفسه عن مسكن جديد، وسيتكفل بنفقاتها وطفلها الوحيد، وهذا أفضل من الدخول في نزاعات، واللجوء إلى المحاكم، واقترح أن تأتي بدون الطفل، حتى يتمكنا من التفاهم بهدوء، وأن بينهما عشرة طويلة، رغم كل شيء.الشيطان والجريمة
ذهبت لبنى لمقابلة زوجها في الشقة، وهناك احتدم النقاش بينهما، وأبدت نفورها من حياتها البائسة، وعايرته بفقره، وأنه بلا طموح، وثار البركان مجدداً، ولم يشعر سمير بما يفعله، ويداه تطبقان على عنق فتاة أحلامه، وهي تقاومه دون فائدة، حتى تهاوت جثة هامدة، ولم يكن أمامه سوى الفرار من مسرح الجريمة. هام القاتل على وجهه، ولا يدري أين سيذهب، وقد انهارت حياته في لحظة غضب، وقرر الاختفاء عن الأنظار، وأن يفكر بهدوء في حياته القادمة، فهو لا يستطيع الذهاب إلى عمله، والإقامة في القاهرة، وقادته قدماه إلى محطة السكة الحديد، واستقل القطار للذهاب إلى عمته التي تعيش في إحدى المدن الساحلية، وهناك أخبرها أنه سيمكث عندها يومين، وحكى لها خلافاته مع زوجته، وأنه يحتاج أن يفكر في هدوء، حتى لا يتسرع في قراره، وأوصاها بعدم إخبار أحد بأنه يقيم عندها، حتى والدته. تعجبت العمة العجوز من أحوال ابن شقيقها، ولكنها فرحت برؤيته، لا سيما أنها تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها، وانشغال أبنائها في حياتهم الخاصة، وأقام سمير في إحدى الغرف، ولا يخرج منها إلا عندما تنادي عليه ليتناول الطعام، وكلما طرق أحد باب المنزل، هب فزعا، حتى يتأكد أن الطارق ليس الشرطة. ساور القلق أهل لبنى، لغياب ابنتهم عن المنزل ساعات طويلة، وحاولوا الاتصال بها دون فائدة، وأسرع والدها إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن اختفاء ابنته، وأخبرهم بأنها على خلاف مع زوجها، وعلى الفور تحركت القوة إلى منزل الجاني، وهناك كانت الضحية ممددة على الأرض، وقد فارقت الحياة. بعد ساعات قليلة من اكتشاف الجريمة، تمكنت قوات الشرطة من القبض على الجاني، وأثناء التحقيق اعترف بقتل زوجته، وسرد تفاصيل حياته معها خلال عشر سنوات، وأنها كانت غير قانعة بحياتها، وتتطلع دائما للثراء، وأمر المحقق بحبس المتهم على ذمة التحقيق، تمهيداً لمثوله أمام القضاء.