في كل عام يموت نحو تسعة ملايين إنسان في مختلف أنحاء العالم- أي ما يعادل عدد سكان النمسا- بسبب الجوع أو أمراض مرتبطة به، الواقع أن هذا أمر مأساوي بما فيه الكفاية، لكن الارتباكات التي أحدثتها جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في سلاسل الإمدادات الغذائية تهدد بمضاعفة هذا الرقم في عام 2020.هذه هي التكلفة المستترة المترتبة على جائحة فيروس كورونا، وستقع هذه التكلفة على عاتق أشد الناس فقرا وضعفا، ولمنع هذه الوفيات التي يمكن تجنبها، يتعين علينا أولا أن ندرك أن إفريقيا، وجنوب آسيا، وغير ذلك من المناطق الأكثر فقرا، من غير الممكن أن تدخل في عملية الإغلاق الكامل أو تسعى إلى احتواء المرض عن طريق محاكاة التدابير المعتمدة في الغرب، وينبغي لهذه المناطق بدلا من ذلك أن تجد طريقها الخاص لإيجاد التوازن بين المخاطر التي يفرضها الفيروس والمخاطر التي تهدد سبل العيش وحياة البشر الناشئة عن محاولات قهر المرض.
ولكن في المقام الأول من الأهمية، يتعين على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن للحفاظ على سلامة عمل سلاسل الإمدادات الغذائية، وخلافا لذلك ستكون العواقب غير المقصودة المترتبة على العلاج أسوأ من المرض ذاته في الأجزاء الأكثر فقرا من العالَم.حدد برنامج الأمم المتحدة للغذاء العالمي 26 دولة هي الأكثر عُـرضة للخطر مع تزايد انعدام الأمن الغذائي بسبب أزمة كوفيد-19، واعتبر البرنامج أن إثيوبيا، ونيجيريا، وموزمبيق ستكون بين الدول الأكثر ضعفا في إفريقيا، وتشير تقديرات برنامج الغذاء العالمي إلى أن 56 مليون شخص في هذه البلدان الثلاثة وحدها (من أصل مجموع سكانها البالغ 334 مليون نسمة) يعانون بالفعل انعدام الأمن الغذائي المزمن، بالإضافة إلى هذا، من بين 1.5 مليار طفل حول العالم خرجوا من المدارس حاليا بسبب الجائحة، يعتمد 350 مليون طفل على الوجبات المدرسية لتجنب الجوع.الواقع أن جائحة كوفيد-19 تفرض على البلدان الأكثر فقرا أربعة تحديات رئيسة تتعلق بالأمن الغذائي:بادئ ذي بدء، الدخل المتاح للأسر أقل من أن يسمح لها بشراء الغذاء الباهظ الثمن على نحو متزايد، ومن المتوقع أن ينكمش نصيب الفرد في الناتج في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا بأكثر من 4% في عام 2020 بسبب الجائحة، في حين تتراجع تحويلات الأفارقة العاملين في الخارج بشدة، بنحو 80% في واحدة من شركات الدفع في المملكة المتحدة، وتظهر دراسات مسح الأسر في بنغلاديش أن الفقراء شهدوا بالفعل انخفاض دخولهم بنسبة مذهلة بلغت 70%؛ وما يقرب من نصفهم يضطرون الآن إلى تقليل استهلاكهم من الغذاء نتيجة لهذا.ثانيا، أصبح نقل المواد الغذائية يستغرق وقتا أطول وأكثر تكلفة، فقد انخفضت أنشطة الشحن العالمي بنحو 25% في الربع الأول من عام 2020، في حين تضاعفت تكلفة إرسال بضائع عبر المحيط الهادئ إلى ثلاثة أمثالها في شهر مارس وحده، كما تعمل إجراءات النظافة الشخصية والتباعد الاجتماعي على تأخير عمليات تخليص البضائع وتسليمها.ثالثا، تسببت الجائحة في تعطيل المعروض العالمي من المنتجات الزراعية، ففي الهند طالَبَ المجلس الهندي للبحوث الزراعية المزارعين بتأجيل حصاد القمح إلى ما بعد انتهاء الإغلاق، في حين فرضت دول مثل فيتنام وكمبوديا بعض القيود على صادرات الأرز، وهذا يؤثر بشكل مباشر على إفريقيا، التي تستورد ما قيمته 4.5 مليارات دولار من الأرز سنويا.بالإضافة إلى هذا، أصبح الغذاء أكثر تكلفة في حين تناضل البلدان الفقيرة لتأمين النقد الأجنبي لتغطية تكاليف الواردات، على سبيل المثال في نيجيريا، ارتفعت الأسعار بنحو 30% في الأسبوع الأخير من مارس، وهو ما يرجع جزئيا إلى انخفاض حاد في عائدات التصدير بعد انهيار أسعار النفط العالمية.لا يخلو الأمر أيضا من عدم تطابق بين العرض والطلب، ففي المملكة المتحدة، تواجه خمسة ملايين لتر من الحليب كل أسبوع احتمال الاضطرار إلى التخلص منها بسبب انخفاض الطلب من جانب المطاعم، لكن هذا الفائض كان من الممكن تحويله إلى حليب مجفف وتصديره إلى حيث تشتد الحاجة إليه.أخيرا، تؤثر جائحة كوفيد-19 على الزراعة وتوافر الغذاء في الأسواق، حيث تظل المدخلات شحيحة وتتأخر الكيماويات الزراعية المهمة في الموانئ وعند نقاط التفتيش الجمركية، وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الإنتاج الزراعي في إفريقيا قد ينحدر بنسبة تصل إلى 7% في عام 2020، اعتمادا على حجم العوائق التجارية.نظرا لهذه التحديات، ينبغي للحكومات أن تعمل على توفير التحويلات النقدية وقنوات توزيع الغذاء الآمن لضمان حماية المواطنين الضعفاء، ومن الأهمية بمكان أن يركز صناع السياسات على إزالة الاختناقات اللوجستية التي تعوق سلاسل القيمة المحلية والدولية، حتى يتسنى تنقل المواد الغذائية بحرية بين البلدان وداخلها، علاوة على ذلك، فإن الاستثمار في موسم الزراعة الآن من شأنه أن يعزز قدرة البلدان على اعتماد الحلول التكنولوجية ويحد من اعتمادها على الواردات من الأغذية.على المستوى العالمي نحتاج إلى أربعة أنماط من التدابير:أولا، يتعين على المجتمع الدولي أن يعمل على زيادة التمويل لتدابير الإغاثة الغذائية والحماية الاجتماعية، ويجب أن يأتي هذا الدعم بسرعة، لأن الفاتورة النهائية، إذا لم يحدث ذلك، ستزداد ضخامة مع انتشار المجاعة وتقويض قدرة الأنظمة الزراعية على الاستمرار.تتلخص الأولوية الثانية في الاستثمار في الإنتاج الزراعي، ولابد من العمل على وجه السرعة على تخفيف ارتباك شبكات إنتاج الغذاء المحلية والإقليمية، وخاصة في هذا الوقت الحرج من موسم الزراعة، عندما يكون توزيع المدخلات مثل الأسمدة أمرا بالغ الأهمية، ويجب أن تستهدف استثمارات أخرى مساعدة البلدان الأكثر فقرا على تكوين احتياطيات غذائية استراتيجية تكفي ثلاثة أشهر، كما أوصى التحالف من أجل ثورة خضراء في إفريقيا مؤخرا، ومن المؤكد أن دعم أنظمة أسواق المحاصيل الغذائية وغير الغذائية على حد سواء من شأنه أن يساعد البلدان الأكثر فقرا في اكتساب المزيد من القدرة على الصمود.ثالثا، يجب أن نعمل على تخفيف الانقطاعات والارتباكات التي طرأت على سلاسل توريد المنتجات الغذائية والزراعية من خلال دعم المراكز اللوجستية الإقليمية والمحلية. والحق أن برنامج الأغذية العالمي في وضع يسمح له بالتنسيق على أفضل نحو مع مثل هذه المراكز، وهو يحتاج إلى 350 مليون دولار على الفور لتحقيق هذه الغاية، وهذا ليس مبلغا كبيرا من المال لضمان إرسال الغذاء بسرعة إلى حيث تشتد الحاجة إليه.أخيرا، نحتاج إلى تحفيز القطاع الخاص لتمويل شركات التصنيع الزراعي والتكنولوجيا الزراعية، ولابد من الإسراع في توجيه الموارد نحو الفرص الاستثمارية التي تنشأ نتيجة للجائحة، وخصوصا لحلول سلاسل القيمة المبتكرة، وتشمل الأولويات دعم التجارة الإلكترونية ومنصات السوق الإلكترونية في البلدان النامية- وخصوصا في إفريقيا- ودعم مشاريع معالجة الأغذية.لقد أثرت جائحة كوفيد-19 بالفعل على السفر التجاري وترتيبات محال العمل، وغير ذلك الكثير، والواقع أن الجائحة تخلق الفرصة لتحويل الأنظمة الغذائية أيضا، وتُـعَد الشراكة الجديدة في كينيا بين شركة بيع التجزئة الإفريقية عبر الإنترنت "جوميا"، ومنصة السوق الإلكترونية للمزارعين المحليين "تويجا"، مثالا عظيما لما يمكن القيام به.تشكل حماية سلاسل الإمدادات الغذائية العنصر الحيوي المفقود في استراتيجية التصدي لجائحة كوفيد-19 الفعّالة، وعلى الرغم من ضخامة التحديات، فإن حلها ممكن من خلال الشراكات العالمية، وخصوصا بين القطاع الخاص، والحكومات، وبنوك التنمية، والمنظمات غير الحكومية، ومنظمات المزارعين، لكن تنفيذ هذه الحلول يجب أن يبدأ على الفور إذا كان لنا أن نتمكن من منع اندلاع أزمة غذائية كارثية في البلدان النامية.* توني بلير رئيس وزراء المملكة المتحدة في الفترة من 1997 إلى 2007، ويشغل حاليا منصب رئيس معهد التغيير العالمي، وأغنيس كاليباتا المبعوثة الخاصة لأمين عام الأمم المتحدة إلى قمة الأنظمة الغذائية 2021.«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
بناء الأمن الغذائي أثناء الجائحة
10-05-2020