فتحت الباب وذراعيها معا فكأنها تشرع قلبها للقادمين وليس مكتبها فقط المليء بتفاصيل حياة طويلة في تلك السفارة العريقة، رددت «افتقدت حضن صديقاتي وأصدقائي»، ربما هي الوحيدة التي قدمت ذراعيها منذ الحظر للقادمين في حين يشير الآخرون إلى الابتعاد، أو يصافحون عبر وضع اليد على الصدر، كما يفعل كثير من المسلمين الرافضين لملامسة «جسد» المرأة حتى لو كان ذاك كفها فربما تثيرهم تلك اليد! وآخرون «اخترعوا» الملامسة بالكوع أو الرجلين، ابتكارات كثيرة لتفادي ما كان من دفء في اللقاء أو انعدامه ببرودة شديدة متعمدة أحيانا، فمن منا لم يكن يفكر بأنني عندما ألتقي أولئك المنافقين أن أبتعد عن تقبيلهم أو حتى أصافحهم بالملامسة وكأن المرء لا يريد أن يتلوث بكم الكذب الذي هو جزء منهم.لم يتوقف حديثها عن الحضن قبل أن تبدأ بالسؤال عن أحوالنا، قالت كم اشتقت لذاك الحضن، فأكثر ما يؤلم في هذا الحظر هو أن المرء لا يستطيع أن ينقل دفء قلبه إلى الآخرين الذين مكانهم هناك، هي أديبة وربما لذلك استطاعت أن تسرد شعراً في فنّ الحضن الذي ما هو إلا همسة للقلب، كلما عرج الحديث عن حياة كل منا في «زمن الكورونا» عادت هي إلى الفراغ الذي حدث في حياة البشر، ورفضها للتواصل عبر جهاز لا يحسّ ولم يصنع لينقل الهمسة والابتسامة والفرحة بلقاء الأحبة.
العناق أو الحضن لا يعنيان الفرح بل هما ربما ملامسة الجسد للجسد تعبيراً عن حالة من الفرح بلقاء أو حتى عن حزن الوداع، حتى بقينا نكرر عند وفاة أو فراق أحبتنا «رحلوا دون أن نحضنهم»، وكثيراً ما نتعانق دون أن نتلامس، بعضنا بالعيون وآخرون بلمسة اليد التي تشبه المصافحة أو هي نوع من أنواعها، فليست كل مصافحة مصافحة!! وكثيراً ما يتعانق الأحبة والرفاق في جلسة حميمة تحمل ربما ذكريات أو مشاريع قادمة، قالت تلك الصديقة والابتسامة تزيد من تجاعيد الزمن على وجهها، عندما ذهبت في رحلة العمل الأولى لي بعد تخرجي بسنة، التقيته في الحافلة التي نقلت المشاركين في ذاك المؤتمر، وكان يحرص على الجلوس بقربي حتى تخيلت أن هذا المكان له هو، وكان يحضنني دوما دون أن نتلامس، ربما بذاك الدفء الذي أحسسته مع دقات قلبه المتسارعة، وعينيه اللتين لم تكونا قادرتين على الابتعاد عن متابعتي. هي الأخرى وصفت حالة من الحضن ربما مرت بها عديد من نساء أوطاننا وخبأنها في مكان ما بعيداً عن أعين المتلصصين والمراقبين لهمسة النساء وكلمات أعينهن الفاضحة. مع طول فترة الحظر كثر الحديث عن افتقاد الكثير من الحريات، حرية الحركة، حرية العمل من المكتب، حرية الجلسات الطويلة في المقاهي مع مرافقة «الشيشة» والهواتف الذكية، كانت جلسات بعيدة ولم تقرب أحداً، وبعد طول هذه الفترة من الابتعاد و«البقاء في البيت» من الكثيرين الذين كتبوا وسجلوا على وسائل التواصل الاجتماعي وفي اللقاءات الصحافية والتلفزيونية عن افتقادهم حميمية اللحظة التي كانت غير افتراضية بل واقعية جدا، تكاد المحبة تكون أكثر الحقائق في حياتنا جميعا، وهي التي تعبر عن نفسها في أشكال متنوعة وليست توضع في قوالب مصنعة. هي كانت أول من التقيناه يعبر عن ذاك الشعور العميق بفقدان التعبير عن الحب والشوق لأحبة لم يرهم منذ أن أغلق كلٌّ باب بيته وأحكم عليه بالمفتاح خوف أن يدخل الفيروس من خرم الباب!!! الحضن الذي هو ليس تعبيراً عن المحبة والاشتياق فقط، بل فيه كثير من التسليم، الروح للروح وأيضا أن يسلم المرء نفسه للآخر، وهذه أعلى سمات الثقة وأكثرها بقاء واستمرارية، وهو الوسادة الناعمة التي يسترخي عندها الشخص من تعب الأيام والكراهية، حتى الطيور عرفته حيث تحضن صغارها حتى يكبروا، هي تلك الصديقة المخضرمة التي عاصرت عدداً من المراحل المتغيرة في بلادها، هي لا تستمع إلا لصوت قلبها وتنشر دفء حضنها كلما نلتقي، تمد يديها فتعصرك بين ذراعي قلبها وتردد «يا حبيبتي يا حبيبتي اشتقنا». * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
اشتقنا له *
11-05-2020