لما كانت الليلة السادسة والستون بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد: بلغني ايها الملك السعيد أن الملك نادى وزراءه وقال: لو كنت قتلت ولدي هل يكون الذنب علي أو على الجارية أو على مؤدب الولد؟ فسكت الحاضرون عن رد الجواب، فقال مؤدب الولد: رد الجواب يا ولدي. قال ابن الملك: إني سمعت أن رجلاً من التجار حل به ضيف في منزله، فأرسل جاريته لتشتري له من السوق لبناً في جرة، فأخذت اللبن في جرتها وأرادت الرجوع إلى منزل سيدها، فبينما هي في الطريق مرت عليها حدأة طائرة وفي مخلبها حية تعصرها به، فقطرت نقطة من الحية في الجرة، وليس عند الجارية خبر بذلك، فلما وصلت إلى المنزل أخذ السيد منها اللبن وشرب منه هو وضيوفه، فما استقر اللبن في جوفهم حتى ماتوا جميعاً، فانظر أيها الملك لمن كان الذنب في هذه القضية؟! فقال أحد الحاضرين: الذنب للجماعة الذين شربوا، وقال آخر: الذنب للجارية التي تركت الجرة مكشوفة من غير غطاء، فقال مؤدب الغلام: ما تقول أنت في ذلك يا ولدي؟ فقال ابن الملك: أقول إن القوم أخطأوا، ليس الذنب ذنب الجارية ولا الجماعة، وإنما آجال القوم فرغت مع أرزاقهم وقدرت منيتهم بسبب ذلك الأمر. فلما سمع ذلك الحاضرون تعجبوا منه غاية العجب، ورفعوا أصواتهم بالدعاء لابن الملك وقالوا له: مولانا قد تكلمت بجواب ليس له نظير، وأنت عالم أهل زمانك الآن.
الشيخ الأعمى
فلما سمع ابن الملك قال لهم: لست بعالم، وإن الشيخ الأعمى وابن الثلاث سنين وابن الخمس سنين أعلم مني، فقال له الجماعة الحاضرون: حدثنا بحديث هؤلاء الذين هم أعلم منك يا غلام. فقال لهم ابن الملك: بلغني أنه كان تاجر من التجار كثير الأموال والأسفار إلى جميع البلدان، فأراد المسير إلى بعض البلدان، فسأل من جاء منها وقال لهم: أي بضاعة فيها كثيرة الكسب؟ فقالوا له: حطب الصندل فإنه يباع غالياً، فاشترى التاجر بجميع ما عنده من المال حطب صندل، وسافر إلى تلك المدينة. فلما وصل إليها كان قدومه إليها آخر النهار، وإذا بعجوز تسوق غنماً لها، فلما رأت التاجر قالت له: من أنت أيها الرجل؟ فقال لها: أنا رجل تاجر غريب. فقالت له: احذر من أهل ذلك البلد، فإنهم قوم مكارون لصوص يخدعون الغريب ليظفروا به ويأكلوا ما كان منهم، وقد نصحتك. ثم فارقته، فلما أصبح الصباح تلقاه رجل من أهل المدينة فسلم عليه، وقال له: يا سيدي، من أين قدمت؟ فقال له: قدمت من البلد الفلانية، قال له: ما حملت معك من التجارة؟ قال له: خشب صندل، فإني سمعت أن له عندكم رواجاً. فقال له الرجل: لقد أخطأ من أشار عليك بذلك، فإننا نوقد تحت القدر بأي خشب، فقيمته عندنا هو والحطب سواء. فلما سمع التاجر كلام الرجل تأسف وندم وصار بين مصدق ومكذب، ثم نزل ذلك التاجر في بعض خانات المدينة وصار يوقد الصندل تحت القدر، فلما رآه ذلك الرجل قال: أتبيع هذا الصندل كل صاع بما تريده نفسك. فقال له: بعتك. فحول الرجل جميع ما عنده من الصندل في منزله وقصد البائع أن يأخذ ذهباً بقدر ما يأخذ المشتري، فلما أصبح الصباح تمشى التاجر في المدينة، فلقيه رجل أزرق العينين من أهل تلك المدينة هو أعور، فتعلق بالتاجر وقال له: أنت الذي أتلف عيني فلا أطلقك أبداً. فأنكر التاجر ذلك وقال له إن هذا الأمر لا يتم، فاجتمع الناس عليهما وسألوا الأعور المهلة إلى غد ويعطيه ثمن عينه، فأقام الرجل التاجر له ضامناً حتى أطلقوه، ثم مضى التاجر وقد انقطع نعله من مجاذبة الرجل الأعور، فوقف على دكان الإسكاف ودفعه له وقال له أصلحه لي ولك عندي ما يرضيك. ثم انصرف عنه وإذا بقوم قاعدين يلعبون، فجلس عندهم من الهم والغم، فسألوه اللعب معهم، فأوقعوا عليه الغلب وغلبوه وخيروه إما أن يشرب البحر وإما أن يخرج من ماله جميعاً، فقام التاجر وقال: أمهلوني إلى غد. ثم مضى التاجر وهو مهموم على ما فعل، ولا يدري كيف يكون حاله، فقعد في موضع متفكراً مغموماً مهموماً، وإذا بالعجوز جائزة عليه، فنظرت نحو التاجر فقالت له لعل أهل تلك المدينة ظفروا بك، فإني أراك مهموماً من الذي أصابك، فحكى لها جميع ما جرى من أوله إلى آخره، فقالت له: من الذي عمل عليك في الصندل فإن الصندل عندنا قيمته كل رطل بعشرة دنانير، ولكن أنا أدبر لك رأياً أرجو به أن يكون ذلك فيه خلاص نفسك، وهو أن تسير نحو الباب الفلاني فإن في ذلك الموضع شيخاً أعمى، مقعد، وهو عالم عارف كبير وكل الناس تحضر عنده يسألونه عما يريدونه، فيشير إليهم مما يكون لهم فيه الصلاح لأنه عارف بالمكر والسحر والنصب، فاذهب عنده وأخف نفسك من غرمائك بحيث تستمع كلامهم ولا يرونك، فإنه يخبرهم بالغالبة والمغلوبة فلعلك تسمع الشطار عنده بالليل، وتسمع منه حجة يخلصك من غرمائك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
غالبة ومغلوبة
وفي الليلة السابعة والستين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قالت للتاجر: اذهب الليلة إلى العالم الذي يجتمع عليه أهل البلد، أخف نفسك، لعلك تسمع منه حجة تخلصك من غرمائك، فانصرف التاجر من عندها إلى الموضع الذي أخبرته به وأخفى نفسه، ثم نظر إلى الشيخ وجلس قريباً منه، فما كان إلا ساعة وقد حضر جماعته الذين يتحاكمون عنده، فلما صاروا بين يدي الشيخ سلموا عليه وسلم بعضهم على بعض، وقعدوا حوله، فلما رآهم التاجر ووجد غرماءه الأربعة من جملة الذين حضروا، وقدم لهم الشيخ شيئاً من الأكل فأكلوا، ثم أقبل كل واحد منهم بخبره بما جرى له في يومه، فتقدم صاحب الصندل وأخبر الشيخ بما جرى له في يومه من أنه اشترى صندلاً من رجل بغير قيمته واستقر البيع بينهما على ملء صاع مما يحب، فقال له الشيخ قد غلبك خصمك، فقال له كيف يغلبني؟ قال الشيخ إذا قال لك أنا آخذ ملئها ذهباً أو فضة فهل أنت تعطيه؟ قال نعم أعطيه وأكون أنا الرابح، فقال له الشيخ: فإذا قال لك أنا آخذ ملء صاع براغيث النصف ذكور والنصف إناث فماذا تصنع؟ فعلم أنه مغلوب. ثم تقدم الأعور وقال يا شيخ: إني رأيت اليوم رجلاً أزرق العينين فتقاربت إليه وتعلقت به وقلت له أنت قد أتلفت عيني، وما تركته حتى ضمنه لي جماعة أنه يعود إلي ويرضيني في عيني، فقال له الشيخ: لو أراد غلبك لغلبك، قال: وكيف يغلبني؟ قال يقول لك اقلع عينك وأنا أقلع عيني ونزن كلاً منهما فإن تساوت عيني بعينك فأنت صادق فيما ادعيته، ثم يغرم دية عينك وتكون أنت أعمى ويكون هو بصيراً بعينه الثانية. فعلم أنه يغلبه بهذه الحجة، ثم تقدم الإسكاف وقال له: يا شيخ إني رأيت رجلاً أعطاني نعله وقال لي أصلحه، فقلت له ألا تعطيني الأجرة، فقال لي أصلحه ولك عندي ما يرضيك وأنا لا يرضيني إلا جميع ماله، فقال له الشيخ إذا أراد أن يأخذ نعله منك ولا يعطيك شيئاً أخذه، فقال له وكيف ذلك؟ قال يقول لك إن السلطان هزمت أعداؤه وضعفت أضداده وكثرت أولاده وأنصاره، أرضيت أم لا؟ فإن قلت رضيت أخذ نعله منك وانصرف، وإن قلت لا أخذ نعله وضرب به وجهك وقفاك، فعلم أنه مغلوب، ثم تقدم الرجل الذي لعب معه بالمراهنة وقال يا شيخ إني لقيت رجلاً فراهنته وغلبته، فقلت له إن شربت هذا البحر فأنا أخرج عن جميع مالي لك وإن تشربه فاخرج عن جميع مالك لي، فقال له الشيخ لو أراد غلبك لغلبك، فقال له وكيف ذلك؟ قال يقول لك أمسك لي فم البحر بيدك وناوله لي وأنا أشربه، فلا تستطيع ويغلبك بهذه الحجة، فلما سمع التاجر ذلك عرف ما يحتج به على غرمائه، ثم قاموا من عند الشيخ وانصرف التاجر إلى محله.فلما أصبح الصباح أتاه الذي راهنه على شرب البحر فقال له التاجر ناولني فم البحر وأنا أشربه، فلم يقدر فغلبه التاجر وفدى الراهن نفسه بمائة دينار، وانصرف، ثم جاءه الإسكاف وطلب منه ما يرضيه فقال له التاجر إن السلطان غلب أعداءه وأهلك أضداده وكثرت أولاده وأنصاره، أرضيت أم لا؟ قال نعم رضيت، فأخذ مركوبه بلا أجرة وانصرف، ثم جاءه الأعور وطلب منه دية عينه، فقال له التاجر اقلع عينك وأنا أقلع عيني ونزنهما، فإن استوتا فأنت صادق فخذ دية عينك، فقال له الأعور أمهلني، ثم صالح التاجر على مائة دينار وانصرف، ثم جاءه الذي اشترى الصندل فقال له: خذ ثمن صندل بصاع من غيره فإن أردت خذ ملئه ذهباً أو فضة، فقال له التاجر أنا لا آخذه لأملاه براغيث النصف ذكوراً والنصف إناث، فقال له أنا لا أقدر على شيء من ذلك، فغلبه التاجر وفدى المشتري نفسه بمائة دينار بعد أن رجع له صندله، وباع التاجر الصندل كيف أراد وقبض ثمنه من تلك المدينة إلى بلده.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.ابن السنين الثلاث
وفي الليلة الثامنة والستين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل التاجر لما باع صندله وقبض ثمنه سافر من تلك المدينة إلى مدينته، ثم قال ابن الملك: وأما ابن الثلاث سنين فإنه كان رجلا فاسقا مغرما بالنساء قد سمع بامرأة ذات جمال وهي ساكنة في مدينة غير مدينته، فسافر إلى المدينة التي هي فيها وأخذ معه هدية وكتب لها رقعة يصف لها شدة ما يقاسيه من الشوق والغرام، وقد حمَله حبه إياها على المهاجرة إليها، فلما وصل إلى منزلها ودخل عليها قامت له على قدميها، وتلقته بالإكرام والاحترام، وكان لها ولد صغير له من العمر ثلاث سنين فتركته واشتغلت بتحضير الطبخ، فلما علم الولد أن الأرز استوى بكى بكاء شديداً، فقالت له أمه ما يبكيك يا ولدي، فقال لها اغرفي لي من الأرز واجعلي لي فيه سمناً، فغرفت وجعلت عليه السمن فأكل الولد ثم بكى ثانياً، فقالت له أمه ما يبكيك يا ولدي فقال لها يا أماه اجعلي لي عليه سكراً، فقال له الرجل وقد اغتاظ منه ما أنت إلا ولد مشؤوم، فقال له الولد: والله يا مشؤوم ما أنت إلا حيث تعبت وسافرت من بلد إلى بلد، وأما أنا فبكائي من أجل شيء كان في عيني فأخرجته بالدموع، وأكلت بعد ذلك أرزاً وسمناً وسكراً، وقد اكتفيت فمن المشؤوم منا؟ فلما سمع الرجل ذلك خجل من كلام ذلك الولد الصغير، ثم أدركته الموعظة فتاب من وقته وساعته ولم يتعرض لها بشيء وعاد إلى بلده.ابن السنوات الخمس
ثم قال ابن الملك: وأما ابن الخمس سنين فإنه بلغني أيها الملك أن أربعة من التجار اشتركوا في ألف دينار، وقد خلطوها بينهم وجعلوها في كيس واحد، فذهبوا بها ليشتروا بضاعة، فلقوا في طريقهم بستاناً حسناً فدخلوه وتركوا الكيس عند حارسة البستان، وقالوا لها: لا تدفعي هذا الكيس إلا إذا حضرنا جميعاً، فلما دخلوا تفرجوا في ناحية البستان وأكلوا وشربوا وانشرحوا، فقال واحد منهم: أنا معي طيب تعالوا نغسل رؤوسنا من هذا الماء الجاري ونتطيب، قال آخر يحتاج إلى مشط نسأل الحارسة لعل أن يكون عندها مشط فقام واحد منهم إلى الحارسة، وقال لها ادفعي لي الكيس، فقالت له حتى تحضروا كلكم أو يأمرني رفقاؤك أن أعطيك إياه، وكان رفقاؤه من مكان بحيث تراهم الحارسة وتسمع كلامهم، فقال الرجل لرفقائه: ما هي راضية أن تعطيني شيئاً، فقالوا لها أعطيه، فلما سمعت كلامهم أعطته الكيس، فأخذه الرجل وخرج هارباً منهم، فلما أبطأ عليهم جاءوا إلى الحارسة وقالوا لها مالك لم تعطيه المشط، قالت لهم: ما طلب مني إلا الكيس ولم أعطه إياه إلا بإذنكم، وخرج من هنا إلى حال سبيله، فلما سمعوا كلام الحارسة لطموا على وجوههم وقبضوا عليها بأيديهم، وقالوا لها: نحن ما أذناك إلا بإعطاء المشط، فقالت لهم: ما ذكر لي مشطاً. فقبضوا عليها ودفعوها إلى القاضي، فلما حضروا بين يديه قصوا عليه القصة فألزم الحارسة بالكيس وألزم بها جماعة من غرمائها.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.العيش الرغيد
فلما سمع الملك كلام ولده والوزراء، ومن حضر ذلك المجلس، قالوا للملك يا مولانا إن ابنك هذا أبرع أهل زمانه، فدعوا له وللملك، فضم الملك ولده إلى صدره وقبله بين عينيه وسأله عن قضيته مع الجارية، فحلف ابن الملك بالله العظيم وبنبيه الكريم أنها هي التي راودته عن نفسه، فصدقه الملك في قوله وقال له: حكّمتك فيها إن شئت فاقتلها وإلا فافعل بها ما تشاء، فقال الولد لأبيه: أنفيها من المدينة، وقعد ابن الملك مع والده في أرغد عيش.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.حكم الغلام
في الليلة التاسعة والستين بعد الخمسمئة قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن القاضي لما ألزم الحارسة بالكيس وألزم بها جماعة من غرمائها خرجت وهي حيرانة لم تعرف طريقاً، فلقيها غلام له من العمر خمس سنين، فلما رآها الغلام وهي حيرانة قال لها ما بالك يا أماه؟ فلم ترد عليه جواباً واستحقرته لصغر سنه، فكرر عليها الكلام أولاً وثانياً وثالثاً فقالت له إن جماعة دخلوا على البستان ووضعوا عندي كيساً فيه ألف دينار وشرطوا علي ألا أعطي أحداً الكيس إلا بحضورهم كلهم ثم دخلوا البستان يتفرجون ويتنزهون فيه، فخرج واحد منهم وقال أعطني الكيس، فقلت له حتى يحضر رفقاؤك، فقال لي قد أخذت الإذن منهم، فلم أرض أن أعطيه الكيس فصاح على رفقائه وقال لهم ما هي راضية أن تعطيني شيئاً، فقالوا لي أعطيه وكانوا بالقرب مني فأعطيته الكيس فأخذه وخرج إلى حال سبيله.فاستبطأه رفقاؤه فخرجوا إلي وقالوا لأي شيء لم تعطيه المشط، فقلت لهم ما ذكر لي مشطاً وما ذكر لي إلا الكيس، فقبضوا علي ودفعوني إلى القاضي وألزمني بالكيس، فقال لها الغلام أعطيني درهماً آخذ به حلاوة، وأنا أقول لك شيئاً يكون فيه الخلاص، فأعطته درهماً وقالت له ما عندك من القول؟ فقال لها الغلام ارجعي إلى القاضي وقولي له كان بيني وبينهم أني لا أعطيهم الكيس إلا بحضورهم الأربعة، قال فرجعت الحارسة إلى القاضي وقالت له ما قاله لها الغلام، فقال لهم القاضي: أكان بينكم وبينها هكذا؟ قالوا نعم، فقال لهم القاضي أحضروا لي رفيقكم وخذوا الكيس، فخرجت الحارسة سالمة ولم يحصل لها ضرر، وانصرفت إلى حال سبيلها.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وإلى اللقاء في حلقة الغد