لبنان ... بلا جامعة أميركية!
لبنان بلا جامعة أميركية ليس لبنان الذي نعرفه، وبيروت بلا "شارع بلس" ليست بيروت الحداثة التي تعودنا عليها والتصقت بنا، اليوم الجامعة تعاني وبشدة مما أصابها نتيجة الانهيار الاقتصادي وما ترتب على "إغلاق البلد" لأشهر بسبب جائحة كورونا. لقد خسرت الجامعة 60% من مداخيلها حيث انخفضت من 609 ملايين دولار إلى 219 مليون دولار سنوياً، وقد تكون هذه أسوأ أزمة تواجهها منذ تأسيسها عام 1866 وهي أزمة لها صلة مباشرة بالزلزال الحالي الذي يضرب هذا البلد بعنف ولا أحد يتحرك، بل متروك وشأنه إلى أن ترفع عنه العقوبات، وتفك عنه أسوار الحصار المفروضة عليه منذ سنوات! صيحات متتالية خرجت على لسان رئيس الجامعة ومنابر إعلامية تدق جرس الإنذار تطالب بإنقاذ أهم مؤسسة للتعليم العالي في المنطقة، وهي في سبيلها لوضع خطة تحافظ على استمراريتها في السنوات الخمس العجاف القادمة!
اهتزاز وضع الجامعة الأميركية في بيروت ليس حدثاً لبنانيا صرفاً، بل هو خليجي وعربي لأنه يمس ذاكرة النخبة في الكويت بالدرجة الأولى والمنطقة عموماً، وعندما يقال إن الجامعة الأميركية في بيروت تعاني من الزكام فالعطس يصيب جماعات واسعة في الكويت وجوارها متأثرين بما يحدث لها، نظراً لارتباطهم بها وعلاقتهم التي لم تنقطع عنها. فقد ارتبط تاريخ الجامعة بهذه النخب منذ العشرينيات من القرن الماضي ولهم فيها ذكريات لا تمحى، بل هي "الرافعة" التي ارتقت بمستوى التعليم في المنطقة، وسبقت كل الجامعات الأميركية في القاهرة وأثينا وأنقرة، فامتد تأثيرها إلى عموم الخليج العربي، فكانت المنارة التي يتسابق عليها أبناء الحكام والعائلات الميسورة والتجار، بحيث شكلت القاعدة العريضة للطبقة الوسطى وطبقة التجار، ولا أحد ينكر الدور التنويري والتعليم الممتاز الذي رفدت به هذه الجامعة المنطقة العربية، فكان خريج "الأميركية" يحمل جواز مرور يؤهله لأن يحظى بمنصب اجتماعي وسياسي وفي قمة الهرم بالدولة التي ينتمي إليها. وبالعودة إلى العشرينيات من القرن الماضي نجد أن الرعيل الأول قد انتظم بالتعليم فيها منذ سنة 1928، وكان منهم عبدالقادر بن موسى الإبراهيم وعبدالعزيز عبدالرحمن الإبراهيم وعبدالله بن يعقوب الإبراهيم، ثم تبعهم الشيخ فهد السالم الصباح، والشيخ محمد الأحمد الجابر الصباح، وكان الابتعاث إليها يندرج تحت عنوان تأهيل الجيل الثاني من أسرة الصباح لتسلم مناصبهم القيادية مستقبلاً. هناك أجيال من الكويتيين الذين تخرجوا منها وتسلموا مواقع قيادية سواء في القطاع الخاص أو في الحكومي، نذكر من الأوائل الشيخ فهد السالم الصباح وعبدالعزيز البحر، ود. أحمد الخطيب وخليفة الغنيم، ومن المجموعات التي تلت هؤلاء، حمزة عباس وعبدالرحمن العوضي، وراشد الراشد ومبارك العلي وخالد خلف وآخرون لا يسعنا أن نستعرض أسماءهم هنا. خلقت الجامعة الأميركية في بيروت بيئة مختلطة، شجعت المناخ الليبرالي وقدمت حاضنة لهذا الفكر الذي يحاكي التنوع في لبنان، ولعل الصورة التي رسمها الدكتور فضلو خوري وهو أول لبناني يرأس الجامعة منذ تاريخها بالقول "هناك ولاية من أربعة ملايين مواطن لبناني يتوزعون على 18 طائفة وجامعته الأميركية تحتضن طلاباً من 92 بلداً، لبنان واحد منها". مجتمع الـAUB يضم نحو 70 ألف خريج، ترسخت جذورهم في العالم العربي، وامتدت في الأرض اللبنانية عميقاً لتمتص المياه الصافية والنقية على حد تعبير الرئيس خوري. تسنى لي التعرف على مجموعة من أبناء الكويت خريجي الجامعة الأميركية، اكتشفت مدى حبهم وتعلقهم بالجامعة وبلبنان، فإضافة للامتياز الأكاديمي الذي تحظى به عملت على رسالة حفزت النقد والتفكير وعدم التسليم بالحقائق كما هي لأن النقد كما يشرح الدكتور فضلو خوري يوازي في أهميته التميز الأكاديمي. الدور التنويري الذي اتسمت به جامعة غنية فكرياً وأكاديمياً تجاوز تأثيرها حدود لبنان ليصل إلى أنحاء العالم العربي وينتج عقولا مفكرة حملت راية التغيير والاعتدال والانفتاح. بعد هذا، هناك واجب أخلاقي ومهني يدعونا لوقفة تعيد الاعتبار لهذه الجامعة، وتمنحها القوة لأن تكمل رسالتها ودورها الذي لا غنى عنه.