فشل القيادة الذريع

نشر في 12-05-2020
آخر تحديث 12-05-2020 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت تشكل القيادة- القدرة على مساعدة الناس في وضع أهدافهم في الإطار المناسب وتحقيقها- أهمية بالغة أثناء الأزمات، فقد أظهر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل هذه القدرة في عام 1940، كما فعل نيلسون مانديلا خلال انتقال جنوب إفريقيا من حكم الفصل العنصري.

قياسا بهذه المعايير التاريخية، كان فشل قادة أكبر اقتصادين في العالَم في الآونة الأخيرة ذريعا، فلم يتفاعل كل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينغ مع فاشية فيروس كورونا في مستهل الأمر بإعلام وتنوير جماهير الناس وتثقيفهم، بل أنكرا المشكلة، وبالتالي دفع الناس ثمن إنكارهما من حياتهم، ثم ذهب كل منهما إلى إعادة توجيه طاقاته نحو توزيع اللوم بدلا من العمل على إيجاد الحلول، وبسبب إخفاقاتهما، ربما فَـوَّتَ العالَم فرصة الاستجابة للأزمة بما يمكن تسميته "لحظة سبوتنيك"، أو "خطة مارشال للتصدي لجائحة مرض فيروس كورونا 2019".

يميز منظرو القيادة بين القادة "التحويليين" والقادة "المتعاملين"، ويحاول الصِنف الأخير توجيه الدفة عبر المواقف المختلفة من خلال العمل كالمعتاد، في حين يحاول المنتمون إلى الصِنف الأول إعادة تشكيل المواقف التي يجدون أنفسهم فيها.

بطبيعة الحال، لا ينجح القادة التحويليون دائما، فقد حاول الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش إعادة تشكيل الشرق الأوسط بغزو العراق، وكانت العواقب وخيمة، على النقيض من ذلك، كان والده، الرئيس جورج بوش الأب، أكثر ميلا إلى أسلوب المعاملات؛ لكنه كان أيضا يتمتع بالمهارات اللازمة لإدارة الوضع المائع الذي وجد العالم نفسه فيه بعد انهيار الشيوعية في أوروبا، فقد انتهت الحرب الباردة، وأعيد توحيد شطري ألمانيا وترسيخها بقوة في الغرب، دون إطلاق رصاصة واحدة.

أيا كان الأسلوب الذي ينتهجه القائد، فإنه قادر على ممارسة تأثير قوي على الهوية الجمعية؛ القوة التي تعمل على تحويل "أنا" و"أنت" إلى "نحن". يميل القادة المتكاسلون إلى تعزيز الوضع الراهن، من خلال استغلال الانقسامات القائمة لحشد الدعم لأنفسهم، كما فعل ترامب، لكن القادة التحويليين الفاعلين قادرون على فرض تأثير أبعد مدى بأشواط على الطابع الأخلاقي للمجتمع، فقد كان بوسع مانديلا، على سبيل المثال، أن يلجأ إلى تعريف قاعدته في جنوب إفريقيا على أنهم السود، ثم يسعى إلى الانتقام لعقود من الظلم، لكنه بدلا من ذلك عمل بلا كلل أو ملل على توسيع نطاق هوية أتباعه.

على نحو مماثل، بعد الحرب العالمية الثانية- التي شهدت قيام ألمانيا بغزو فرنسا للمرة الثالثة في غضون سبعين عاما- خلص الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه إلى أن الانتقام لن يُـفضي إلا إلى إعادة إنتاج المأساة، ولتغيير الوضع، ابتكر مونيه خطة للإنتاج الأوروبي المشترك للفحم والفولاذ، وهو الترتيب الذي تطور في نهاية المطاف ليتحول إلى الاتحاد الأوروبي.

لم تكن هذه الإنجازات حتمية، فعندما ننظر إلى ما وراء أُسَـرِنا وأقرب المقربين منا، نجد أن أغلب الهويات البشرية تندرج تحت ما أسماه العالِم السياسي بنيدكت أندرسون "المجتمعات المتخيلة"، فلا أحد يشارك بشكل مباشرة في تجربة الملايين الآخرين الذين ينتمون إلى الجنسية ذاتها، ومع ذلك، على مدار القرنين الماضيين، كانت الأمة هي المجتمع المتخيل الذي كان الناس على استعداد للموت من أجله.

لكن التهديدات العالمية مثل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 ( كوفيد-19) وتغير المناخ لا تميز حسب الجنسية، في عالَم تحكمه العولمة، ينتمي أغلب الناس إلى عدد من المجتمعات المتخيلة المتداخلة- المحلية، والإقليمية، والوطنية، والعِرقية، والدينية، والمهنية- ولا يضطر القادة إلى مناشدة أضيق الهويات من أجل حشد الدعم أو التضامن.

الواقع أن اندلاع جائحة كوفيد-19 قدمت فرصة سانحة للقيادة التحويلية، كان الزعيم التحويلي ليشرح في وقت مبكر من الجائحة: "لأن الأزمة عالمية بطبيعتها، فلن يتسنى لأي دولة تعمل بشكل منفرد حلها"، لكن ترامب وشي جين بينغ أهدرا هذه الفرصة، فقد فشل كل منهما في إدراك حقيقة مفادها أن ممارسة القوة من الممكن أن تصبح مباراة محصلتها إيجابية، وبدلا من التفكير من منظور فرض القوة على الآخرين، كان بوسعهما أن يفكرا في استخدام القوة جنبا إلى جنب مع الآخرين لمصلحة الجميع.

في العديد من القضايا العابرة للحدود الوطنية، قد يساعد عمل الآخرين على تمكين دولة مثل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافهم الخاصة، فإذا تمكنت الصين من تعزيز نظام الصحة العامة لديها أو الحد من بصمتها الكربونية، فسيستفيد الأميركيون والجميع غيرهم، في عالَم تحكمه العولمة، تُـعَـد الشبكات مصدرا أساسيا للقوة، وفي عالَم متزايد التعقيد، تصبح الدول الأكثر ارتباطا- تلك الأكثر قدرة على اجتذاب الشركاء للمساهمة في جهود تعاونية- هي الأكثر قوة.

بقدر ما يكمن المفتاح إلى أمن أميركا وازدهارها في المستقبل في إدراك أهمية "القوة مع" وكذا "القوة على"، كان أداء إدارة ترمب خلال الجائحة مثبطا، والمشكلة ليست في شعار "أميركا أولا" (فكل دولة تضع مصالحها أولا)، بل تكمن المشكلة في كيفية تعريف ترامب للمصالح الأميركية، وبسبب تركيزه بشكل منفرد على مكاسب قصيرة الأجل تتحقق من خلال صفقات محصلتها صِفر، أولى ترامب اهتماما ضئيلا للمصالح الأطول أمدا التي تخدمها المؤسسات، والتحالفات، والمعاملة بالمثل.

في ظل الظروف الحالية، تخلت الولايات المتحدة عن تقاليدها في السعي إلى تحقيق المصلحة الذاتية المستنيرة البعيدة الأمد، ولكن برغم ذلك، لا يزال بإمكان إدارة ترامب أن تلتفت إلى الدروس التي دعمت نجاحات الرؤساء الأميركيين في مرحلة ما بعد عام 1945 والتي وصفتها في كتابي الأخير بعنوان "هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترامب". الواقع أن الولايات المتحدة لا يزال بوسعها أن تطلق برنامجا صخما للمساعدة في التصدي لجائحة كوفيد-19 على غرار خطة مارشال.

كما زعم هنري كيسنجر مؤخرا، يتعين على قادة اليوم أن يختاروا مسار التعاون الذي يُـفضي إلى تحسين المرونة والقدرة على الصمود على المستوى الدولي، وبدلا من اللجوء إلى الدعاية التنافسية، يستطيع ترامب أن يدعو إلى عقد قمة طارئة لمجموعة العشرين أو اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإنشاء أطر ثنائية ومتعددة الأطراف لتعزيز التعاون.

وربما يشير ترامب أيضا إلى أن الموجات الجديدة من جائحة كوفيد-19 ستضرب الدول الأشد فقرا بقوة، وأن الفاشيات الجديدة في جنوب الكرة الأرضية ستلحق الأذى بالجميع عندما تنتشر شمالا، ويجدر بنا أن نتذكر هنا أن الموجة الثانية من جائحة الإنفلونزا في 1918 قتلت عددا من الناس أكبر من أولئك الذين قتلتهم موجتها الأولى، فالقائد التحويلي يجب أن يعلم عامة الأميركيين أن حشد المساهمات السخية لإنشاء صندوق جديد لمكافحة جائحة كوفيد-19 مفتوح لكل البلدان النامية أمر يصب في مصلحتهم الشخصية.

إذا كان لمثيل تشرشل أو مانديلا أميركي يثقف الناس على هذا النحو، فإن الجائحة من الممكن أن تفتح طريقا إلى سياسية عالمية أفضل، ولكن من المحزن أننا ربما فاتتنا بالفعل لحظة القيادة التحويلية، وقد يعمل الفيروس ببساطة على تسريع وتيرة الظروف العالمية التي وجدت مسبقا من القومية الشعبوية وإساءة استخدام التكنولوجيا على يد الحكومات المستبدة، ولا شك أن إخفاقات القيادة مثار للأسف والحزن دائما، لكنها تصبح أشد إيلاما في مواجهة الأزمات.

* جوزيف س. ناي الابن أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترامب».

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top