مرت الأيام ثقيلة على كريم، وأغلق هاتفه الجوال، وبات لا يخرج من غرفته، وحاولت أمه أن تخفف عليه وقع الصدمة، بينما عنّفه والده أكثر مرة، حتى يفيق من أحزانه، ويتأهب لعام دراسي جديد، لكن شقيقته الصغرى ظلت تعايره برسوبه في امتحان الثانوية العامة، وفي لحظة طائشة تحوّل إلى قاتل، وينتظر خلف القضبان مصيراً غامضاً.

انتفضت نوال فزعة من نومها، وأيقظت زوجها حتى لا يتأخران عن عملهما، وحاولت أن تخفي قلقها خلف ابتسامة باهتة، وكان ولداها كريم ونورا مازالا نائمين، وعليها أن تجهز لهما الغداء قبل أن تغادر الشقة، وراودها شعور غريب، دفعها لإيقاظ ابنتها، وأبدت الأخيرة تذمّرها، لأنها لا تحب الاستيقاظ مبكرا في فترة الإجازة، وتلقت تحذيرات أمها بألّا تضايق شقيقها كريم، وتتركه في حاله، وصرخت نورا: "حاضر... لن أضايق الفاشل"، ووضعت الوسادة على رأسها.

Ad

كانت نورا بطبيعتها فتاة متنمرة، ورغم ذكائها الشديد، فإنها دأبت على تأكيد ذاتها بالاستهانة بالآخرين، وساهم تدليل أمها لها على شعورها بالتميز عن شقيقها كريم، وقد أحدث هذا الأمر فجوة هائلة بينهما، لاسيما أنها متفوقة في دراستها، بينما يتعثّر في دراسته، ويجتاز الاختبارات بصعوبة، وبدا الفارق واضحا بينهما، فالفتى لا يرغب في استكمال تعليمه، بينما نورا لديها طموحات هائلة في دخول إحدى كليات القمة، كالطب أو الهندسة.

وتكررت المشاجرات بين كريم ونورا، واستطاعت الأخيرة أن تسجل انتصارا تلو الآخر على شقيقها، واكتسبت تعاطف والديها، مما أوقعهما في سوء التعامل معهما، والتحامل على ابنهما الأكبر، دون إدراك لخطورة هذه التفرقة، وأن الأبناء في مرحلة المراهقة يحتاجون إلى أسلوب مثالي في التربية، حتى لا يقعان فريسة لأمراض نفسية وعصبية، أو تتحول العلاقة بين الشقيقين مستقبلاً إلى خصومة دائمة.

أضغاث أحلام

هبطت نوال خلف زوجها صامتة، بينما فتح باب السيارة، وجلست إلى جواره، وفي الطريق أعربت عن قلقها على كريم، وردّ الزوج قائلا: لا تقلقي هذه فترة ستمر ودورك أن تخففي عنه، ولا تجعلي شقيقته تعايره برسوبه، يبدو أن تدليلك لها جعلها شخصية عدوانية، لا تراعي شعور الآخرين"، ولاذت هي بالصمت حتى لا يتفجر الشجار بينهما، وانشغلت بتفسير الحلم الذي أزعجها بتفاصيله الغريبة، لكنها قررت ألا تحكيه لزوجها، وأقنعت نفسها بأنه مجرد أضغاث أحلام، واستغرقها التفكير في حياتها الماضية.

مرت المشاهد أمام عينيها، واختلطت بحركة السيارات والعابرين، وتذكرت يوم جاء كمال لخطبتها من والدها، وحينها كان شابا وسيما ومن عائلة طيبة، وتحدث صراحة عن ظروفه الخاصة، وأنه مسؤول عن والدته وإخوته بعد وفاة والده، لكنه ورث عنه بعض المال، بما يتيح له دفع المهر وتأثيث شقة الزوجية، وأنه سيعتمد على راتبه كمحاسب في بداية الطريق، ولن يمانع إذا أرادت عروسه أن تعمل أو تتفرغ لبيتها.

في ذلك الوقت، كانت نوال أنهت دراستها الجامعية، وتعمل مدرّسة في إحدى المدارس الخاصة، ولم تكن ترغب في ترك عملها، وسرعان ما حدث التفاهم بينهما على أمور كثيرة، أهمها أنها تريد أن تشاركه رحلة كفاح، حتى يوفران لأولادهما في المستقبل، حياة آمنة، وبدوره كان كمال في غاية السعادة، لأنه سيرتبط بفتاة تقدر المسؤولية، وأنها جديرة بحبه وإخلاصه، ووعدها بأنه سيحقق كل أحلامها، واتفق مع والدها على موعد الزفاف.

واستطاع كمال أن يشتري "شقة تمليك" في أحد الأحياء الراقية بالجيزة، وأن يدبر نفقات ليلة الزفاف، واستقر مع عروسه في القفص الذهبي، وبدت حياتهما هادئة، ويسودها التفاهم والحب، وقطعا على نفسيهما وعدا بأن تبقى خلافاتهما بين جدران المنزل، وبعيدة عن تدخّل الأهل، حتى لا تتفاقم حدتها، مهما كانت بسيطة.

اختبارات صعبة

وفي نهاية العام الأول من زواجهما، رزقا بمولدهما الأول كريم، وبعد عامين جاءت نورا، فأضحى جُل هدفهما تنشئهما على الأخلاق والتفوق في دراستهما، وأظهرت الابنة الصغرى نبوغها في سنّ مبكرة، وبدت شديدة الطموح ومتوقدة الذكاء، بينما كان شقيقها مهملا في دراسته، ويجتاز الاختبارات بصعوبة، مما جعله في مقارنة دائمة مع شقيقته الصغرى، وبدورها كانت تسخر منه، وتتحين الفرص لنعته بالفاشل، وغالبا ما يحاول عقابها، لكنها تجري من أمامه، وتستنجد بوالديها، مما جعله مدانا طول الوقت، وتنامى في داخله شعور بالوحدة، وتملّكه اليأس في كسب ثقة الآخرين، سواء كانوا أفراد أسرته أو معلميه وزملائه في المدرسة.

وصار كريم ضحية ظروف متراكمة، وتخيّل والداه أنها أزمة عابرة، ستنتهي بمجرد تجاوزه مرحلة المراهقة، وحصوله على الثانوية العامة، وحين سأله والده عن الكلية التي يرغب في الالتحاق بها، كانت إجابته صادمة: "أنا لن أدخل الجامعة، وأريد أن أعمل مشروعاً خاصاً"، وهنا قالت نورا ساخرة: كريم لا يحب التعليم، ويريد أن يصبح رجل أعمال، فنهرتها أمها، وقالت: كريم سيكمل تعليمه وسيحصل على ماجستير ودكتوراه، فقال كريم موجها كلامه إلى أبيه: من فضلك ممكن تساعدني في المشروع، فاستفسر الأب منه عن طبيعة هذا "المشروع"، فقال: "أريد أن أفتح سايبر كمبيوتر وصالة بلياردو"، وعلى غير المتوقع انفجر الجميع في الضحك، وقال والده: "عليك الحصول على الثانوية أولا، ثم نفكر في هذا المشروع".

تضاعفت أحزان كريم بعد هذه الجلسة، وسخرية الجميع من رغبته في تحقيق ذاته، وكان الشيء الوحيد الذي يجيده، هو التعامل مع الأجهزة الإلكترونية، وأظهر براعته في صيانة "اللاب توب" الشخصي، وأثناء فترة الإجازات، كان يلتحق بدورات تدريب في هذا المجال، لكن والده قال له: "إذا كنت تريد أن تكمل في هذا المجال، فعليك أن تدخل القسم العلمي"، لكن كريم لم يعبأ بنصيحة والده، واعتبر أن هذا القدر من المعلومات كاف، ليحقق حلم حياته في فتح مشروعه الخاص.

نهاية العالم

وفي المرحلة الأخيرة من الدراسة الثانوية، حاول كريم أن يحصّل دروسه بانتظام، وشعر والداه بنوع من الاطمئنان، لا سيما أن ابنهما ثاب إلى رشده، ويبذل جهدا كبيرا من أجل النجاح، وحان موعد اختبار نهاية العام، وتملّكته رغبة جارفة في اجتياز هذا الرهان الصعب، وأن يثبت لهم قدرته على النجاح بتفوق، والتخلص نهائيا من سخرية شقيقته الصغرى، وتحقيق حلم حياته في التوقف عن التعليم عند هذا الحد، وبدء حياته العملية في سنّ مبكرة.

وبعد طول انتظار، حان موعد إعلان نتيجة الثانوية العامة، وبأصابع مرتجفة أدخل رقم جلوسه في صفحة أحد المواقع الإلكترونية، ودارت الدنيا من حوله، وأصابه صداع شديد، وفي هذا الوقت كانت نورا تتصل هاتفيا بأمها، وتخبرها برسوب كريم، وأن حالته سيئة، ويغلق عليه باب غرفته، وأنها حاولت التحدث معه دون فائدة، ولا تدري ماذا تفعل.

على الجانب الآخر، كانت نوال صامتة، وقد صدمها خبر رسوب ابنها كريم، ومرت عليها لحظات ثقيلة، واستأذنت في الانصراف من المدرسة، وفي الطريق ترددت في إبلاغ زوجها بالخبر، وعادت إلى المنزل، وظلت تطرق الباب على كريم، دون أن يجيب، واستنجدت بالجيران ليساعدوها في فتح الباب، وبعد محاولات كثيرة، فتح كريم الباب، وأخبرها أنه بخير، لكنه لا يريد أن يتكلم مع أحد، وطلب منهم أن يتركوه بمفرده.

سيطرت أفكار غريبة عليه، وشعر أن رسوبه نهاية العالم، وتهاوت أحلامه في بدء مرحلة جديدة من حياته، فقد سئم المذاكرة، ولن يجبره أحد على دخول الامتحان مرة أخرى، حتى لو اضطر إلى الهروب من المنزل، لكنه تدارك قائلا: أين سأذهب بمفردي، وهل هناك فرصة عمل من دون مؤهل دراسي، سوى أن يكون بائعا متجولا أو عاملا في أحد المحال؟

ودار رأسه بحثا عن مخرج من هذا المأزق، بلا فائدة.

عندما علم والده بالخبر، تجاهل الأمر، وقال لزوجته: جهّزي الغداء، ثم طرق باب الغرفة في عنف، وحينها انتفض كريم فزعا، وفتح الباب، وتخيّل أن والده سينهال عليه بالضرب، وعلى غير المتوقع رآه يبتسم قائلا: ولا يهمك، وشد حيلك السنة القادمة"، وجذبه من يده ليجلس معهم إلى المائدة، بينما خفت حدة التوتر من الأم، ولم تجرؤ نورا على السخرية من شقيقها، لكنها قاومت رغبتها في الضحك، دون أن تعرف سببا لذلك، وساد بينهم الصمت.

اعترافات قاتل

توقفت السيارة أمام إحدى المدارس بحي الهرم في الجيزة، ونزلت نوال مبتسمة، وظل زوجها يراقبها حتى اجتازت البوابة، وانطلق المحاسب كامل بعربته إلى مقر عمله بإحدى الشركات الحكومية، وتأهب ليوم عمل شاق، لاسيما أنه مسؤول عن استخراج ميزانية الشركة في نهاية السنة المالية، وسرعان ما استغرقه العمل بين الأوراق وشاشة الكمبيوتر، وتوجيه زملائه والرد على استفساراتهم، وتناسى همومه العائلية، حتى حانت ساعة الانصراف.

في ذلك الوقت، كان كريم في طريقه إلى قسم الشرطة، وطلب مقابلة أحد المسؤولين للإبلاغ عن أمر مهم، وفوجئ الضابط بدخول فتى لم يتجاوز الـعشرين من عمره، وحين سأله عما يريد، قال في هدوء: "أنا قتلت أختي.. خنقتها غصب عني"، للوهلة الأولى شكّ الضابط في سلامة قوى الشاب العقلية، فطلب منه الجلوس، وفتح تحقيقاً مع المتهم، وبدأ في تسجيل اعترافاته، وبعد أن وقّع عليها، تحرّك مع قوة من أفراد الأمن إلى مسرح الجريمة.

بعد دقائق توقفت سيارة الشرطة أمام منزل المتهم، وفرض الضابط المسؤول طوقا أمنيا بالطابق الذي يضم الشقة محل الواقعة، موجها بمنع حركة الدخول والخروج لتسهيل مهمة رجال المباحث والمعمل الجنائي في إجراء معاينة دقيقة، وفي داخل الشقة عُثر على جثة نوران (14 عاماً)، ترتدي ملابسها كاملة، ووجود آثار خنق بالرقبة.

وقام المتهم بتمثيل جريمته أمام رجال المباحث، وذكر أنه استيقظ من نومه، وخرج إلى الصالة، فوجد نورا جالسة أمام التلفاز، والتفتت إليه قائلة: صباح الخير يا فاشل، فما كان منه إلا صفعها على وجهها، فردت إليه الصفعة، ودون أن يدري خنقها، حتى لفظت أنفاسها، فجرى إلى الشارع حتى وصل إلى مقر الشرطة.

في ذلك الوقت، توقفت السيارة أمام المنزل، ونزل كمال وزوجته نوال، وفوجئا بوجود عربة الشرطة، واجتازا الطوق الأمني، وهرعا إلى الشقة، وهناك عقدت الصدمة لسانهما، وانهارت الأم مغشيا عليها، وتسمّر الأب في مكانه، غير مصدق لما يراه، وكأنه في كابوس يتمنى الإفلات منه، بينما رجال الإسعاف يحملون جثة المجنى عليها، والجاني مكبل بالقيود في طريقه إلى السجن.

لحظات قاسية، فقد معها الأب القدرة على النطق والحركة، وحاول استيعاب الموقف، بينما الجيران يحالون إفاقة زوجته الملقاة على الأرض، وبخطوات متثاقلة هبط الدرجات، ولحق به سكان الشارع، وهم يرددون عبارات المواساة والتعزية، بينما كان كامل ذاهلا، وكأنه أصابه الصمم، ولم يستطع أن يقود سيارته، والتفت خلفه، فهرع إليه بعض جيرانه، فقال بصوت واهن: أريد أن أذهب إلى قسم الشرطة.

وكانت قوات الأمن قد اصطحبت المتهم إلى قسم الشرطة، لكن قبل ركوبه "البوكس" ظل يردد عبارة واحدة: "غصب عني... ماقصدتش أقتلها، دي أختي"، بينما سيارة الإسعاف تحمل جثة المجني عليها إلى مشرحة المستشفى، انتظارا لقرار النيابة العامة التي باشرت التحقيق.

في ذلك اليوم، كانت رائحة الموت تسكن المكان، والبيوت اتشحت بالسواد حزنا على وفاة "العروسة" - كما وصفها الجيران - وحاول قاطنو المنطقة بشتى الوسائل مواساة الأب المسكين والأم المنكوبة، ويرددون: "كان الله في عونهما.. بنتهما قُتلت وابنهما سيدخل السجن".