إنسان كورونا الجديد
يبدو الأمر جلياً بعد مرور أربعة أشهر تقريباً على انتشار وباء "كوفيد- 19"، أن أهم ما قام به الفيروس، سريع الانتشار، بالإضافة إلى اختبار نظام مناعة جسم الإنسان، أنه قام باختبارات عدة لحال إنسان القرن العشرين والواحد والعشرين: تحمله للتباعد الاجتماعي، استعداده على البقاء في البيت بحكم المسجون، قدرته على تحمل اعتياد ما لم يعتد، صلاحية الأسرة، ومدى طاقة كل من الزوج والزوجة على معايشة بعضهما للآخر طول أيام وأيام، مدى قدرة الأسرة على احتواء الأبناء، وعيش لحظات سعادة بينهما، والتقرب واكتشاف مواهبهم الخفية، وأخيراً الاختبار الأهم في متانة علاقة الإنسان بالحرية.استطاع "كورونا" أن يصيب الإنسان في جسده، وفي حبسه، وفي مأكله ومشربه، وفي صداقاته، وفي موته، إلا أنه فشل في أن يصيبه في حريته!نعم، الفيروس كان امتحاناً صعباً لعلاقة الإنسان بالحرية، ولقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن علاقة الإنسان بالحرية، هي علاقته بالحياة نفسها، وأنه على استعداد مجنون أحياناً لأن يضحي بحياته على ألا يضحي بحريته. وهذا بدوره وضع أنظمة العالم السياسية من الصين حتى الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا ومختلف بقاع الأرض، وحدها الأنظمة السياسية؛ الديمقراطية منها والدكتاتوري، أمام عظمة الإنسان وجبروت الإنسان، وجنون الإنسان، ولعل الأنظمة أدركت كم هي وطيدة علاقة الإنسان بالحرية، وكم هو على استعداد لأن يضحي بالغالي والنفيس في سبيلها.
منذ الأيام الأولى، وجميع الأجهزة الصحية في العالم، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، تنادي بأن التباعد الاجتماعي هو الوسيلة الأهم لتجنب المرض، وأن "كورونا" لا يدخل أي بيت إلا إذا سعى صاحبه لإحضاره. صحيح أن وعي الإنسان يوازن بين صحته وحياته وبين المرض وربما الموت، لكن كم تبدو المعادلة صعبة على الإنسان، الإنسان في المطلق، في الشمال والجنوب، وفي الشرق والغرب، الإنسان الغني والفقير، والمتعلم والجاهل، الكبير والصغير، وهذا يقدم دليلاً آخر على طبيعة علاقة الحرية بالإنسان، وأنها تولد معه، بحيث يولد الإنسان مجبولاً على الحرية.العالم يعيش منعطف "كورونا"، وهو يعيش حرباً كونية مع فيروس خبيث وماكر وفتّاك، وليس أمام الإنسان إلا الانتصار في هذ الحرب، وإلا كانت نهاية البشرية. سيناريوهات كثيرة تنتظر العالم، إلا أن السيناريو الأوضح هو أن البشرية ستنتصر في حربها على "كورونا"، وأن الفيروس سيأخذ في طريقه عدداً من البشر، مهما كان هذه العدد، لكن النصر سيكون في النهاية حليف الإنسان، وحينئذ ستعلن البشرية اجتيازها لمحنة امتحانات "كورونا"، ولحظتها سيكون على العالم أن يخطو داخلاً لعالم ما بعد الفيروس، وهو مؤكد مختلف تماماً عن عالم ما قبل "كورونا".مخطئ من يعتقد أن الحياة ستعود حينما يرحل "كورونا" إلى سابق عهدها، صحيح أن الطرق ستبقى في مكانها، وأن وقت الشروق والغروب سيتحرك ليكون كما هو مفترض له، لكن الصحيح أيضاً، أنه لا شيء سيكون كما كان قبل كورونا: لا سلوك الإنسان، ولا الاقتصاد، ولا البيع، ولا الشراء، ولا العملة، ولا السفر، ولا الدراسة، ولا الوصل الإنساني، ولا العاطفة الإنسانية، ولا الحب.على مستوى الدول، ما بعد "كورونا"، ستكون حربا باردة مشتعلة على زعامة العالم، "كورونا" هزَّ صورة الولايات المتحدة الأميركية، وهزّ معها صور الأنظمة الطبية عالمية السمعة، وتحديداً الأنظمة الطبية الأوروبية، وهزَّ نشوة الصين للحضور في الملعب العالمي، لكن من قال إن أميركا ستستسلم، ومن قال إن العولمة ستوافق، وإن الليبرالية ستنسحب. كل شيء سيتغير، لكن المتغير الأهم هو الإنسان، فإنسان بما بعد "كورونا" هو غيره، لذا يجب على كل واحد منا أن يعدّ العدة ليكون الإنسان القديم الجديد.