اجتازت المطربة الصغيرة «نجاة» أول اختبار أمام كبار الموسيقيين، وانبهر بها الحضور في قاعة معهد الموسيقى، وسهرت الليالي بجوار الراديو، وباتت كشريط تسجيل يردد الأغاني من دون توقف، وألحت على والدها لرؤية «كوكب الشرق» في حديقة الأزبكية، واتجهت إليها الأضواء في التاسعة من عمرها، عندما جرت إلى الكواليس من أمام الجمهور، وارتمت في أحضان سيدة الغناء العربي، وتتابعت رحلة صعود «خليفة أم كلثوم» نحو فضاء النجومية والشهرة.

Ad

اجتازت المطربة الصغيرة «نجاة» أول اختبار أمام كبار الموسيقيين، وانبهر بها الحضور في قاعة معهد الموسيقى، وسهرت الليالي بجوار الراديو، وباتت كشريط تسجيل يردد الأغاني من دون توقف، وألحت على والدها لرؤية «كوكب الشرق» في حديقة الأزبكية، واتجهت إليها الأضواء في التاسعة من عمرها، عندما جرت إلى الكواليس من أمام الجمهور، وارتمت في أحضان سيدة الغناء العربي، وتتابعت رحلة صعود «خليفة أم كلثوم» نحو فضاء النجومية والشهرة.

لعب الفنان عزالدين حسني دوراً كبيراً في تقديم شقيقته الصغرى «نجاة» إلى الوسط الفني، وبات مستشاراً فنياً وموجهاً لها في أولى خطواتها بساحة الغناء، وفي ذلك الوقت عهد إليه والده بتدريبها، وظلت عدة سنوات تردد أغاني مطربتها المفضلة أم كلثوم، وقالت في مقابلة أجريت معها عام 1964، إن أغنيتها الأولى في الإذاعة المصرية، كانت «ليه خليتني أحبك» للمطربة ليلى مراد، وقدَّم لها الشاعر مأمون الشناوي أغنية «أوصفولي الحب» من تلحين محمود الشريف، وكانت هذه الأغنية بدايتها الفنية الحقيقية.

لبلبة تقلّد نجاة وتحرجها أمام الجمهور

تحدثت الفنانة الكبيرة لبلبة عن مسيرتها الفنية الطويلة، التي بدأتها منذ طفولتها بتقليد الفنانين على خشبة المسرح في الحفلات خلال فترة الستينيات، وكشفت في ندوة بمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية العام الماضي أسباب اعتزالها فن «المونولوج» ومنها موقف محرج تعرضت له المطربة نجاة أمام جمهورها.

وفي ذلك الوقت نافست لبلبة مجموعة من فناني «المونولوج الكوميدي» مثل محمود شكوكو، وسيد الملاح، وأحمد غانم، وبرعت في تقليد نجمات هذا العصر، ومنهن المطربتان نجاة وفايزة أحمد، والنجمة السينمائية ماجدة، ولكل منهن حركات مميزة في الغناء أو التمثيل، وصارت هذه الفقرة ثابتة في الحفلات الغنائية، ويتجاوب معها الجمهور قبل ظهور مطربي الحفل.

وذكرت لبلبة مع الجمهور الحاضر للندوة، مواقف لا تنساها أثناء تقليدها للفنانين في طفولتها، فقالت إنها تحب التقليد، وانها حتى هذه اللحظة إذا التقت بشخص ما، ووجدت فيه حركة مميزة تقلده، وان الجمهور عرفها كفنانة كوميدية، ولكن المخرج الراحل عاطف الطيب قدمها في دور تراجيدي بفيلم «ليلة ساخنة» مع الفنان نور الشريف، ليعيد اكتشافها بعد مرحلة طويلة من تقديم الأدوار الكوميدية.

وأشارت إلى أنها قلدت كل النجوم الكبار إلا المطربة أم كلثوم، لافتة إلى أنها لم تفكر أبداً في تقليدها، إلا مرة واحدة عندما التقتها مصادفة في إحدى الحفلات، وحينئذ كانت تبلغ من العمر 7 سنوات، وكانت تشعر برهبة شديدة وهي تقلدها بناء على طلبها الخاص، وأنها ضحكت كثيراً وأثنت على براعتها في تقليدها، ولكنها لم تقلد كوكب الشرق في حفلة غنائية.

وأكدت لبلبة أن معظم الفنانين لم ينزعجوا من تقليدها لهم، بل كانوا يطلبون منها الاستمرار في تقليدهم، حتى ان بعضهم أصبح يأخذ حذره ولا يقوم بنفس الحركات، باستثناء المطربة نجاة الصغيرة، التي انزعجت منها بسبب موقف حدث في إحدى الحفلات التي جمعت بينهما.

وحكت لبلبة أنها كانت تشارك في حفل مع نجاة الصغيرة، وقدمت قبلها فقرتها وقلدتها، ولكن عندما صعدت نجاة على المسرح لتقديم فقرتها الغنائية، بدأ الجمهور في الضحك، لأنها قامت بنفس الحركات التي فعلتها لبلبة، الأمر الذي أحرج نجاة، وقررت لبلبة عدم تقليدها مرة أخرى.

وطوت نجاة مرحلة تقليد المطربات، عندما غنت أول أغنية خاصة بها في عام 1955، وعمرها لا يتجاوز 16 عاماً، وتركت بيت العائلة إثر خلافها مع والدها الخطاط محمد حسني البابا، وقد أراد الأخير أن تظل الطفلة الصغيرة التي تبهر الجمهور بأداء أغاني أم كلثوم، واشتد الخلاف بينهما، وساعدها شقيقها عزالدين على أن تكون لها شخصيتها الفنية المستقلة، وكانت المرة الأولى التي تتمرد فيها على القيود، والابتعاد عن منزل العائلة، لتسكن في منزل بحي الزمالك، قبل أن تتزوج من صديق شقيقها.

وفي ذلك الوقت، أطلقت المطربة الصغيرة العديد من الأغنيات الأخرى لمحطات الراديو. وكانت مدة كل أغنية تتراوح بين 7 إلى 8 دقائق، ثم بدأت في تقديم الأغاني الطويلة، حيث تحكي كل واحدة منها قصة ما، وكل أغنية تستمر عادة مدة 20 إلى 40 دقيقة في بعض تسجيلات الاستوديو، وتعاونت مع كبار الملحنين مثل محمود الشريف، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ورؤوف ذهني.

واتسعت دائرة الاهتمام بالمطربة المتألقة، وتفتحت موهبتها مع ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وبدأت تعاونها معه في لحن «كل دا كان ليه» للشاعر حسين السيد، والذي سبق أن غناه عبدالوهاب في آخر حفلاته الغنائية بعد ثورة يوليو 1952، ثم توالت الأغنيات الحصرية لصاحبة الصوت الدافئ مع موسيقار الأجيال، ومنها «ساكن قصادي»، و»أنا بأستناك»، و»مرسال الهوى»، و»لا تكذبي»، و»أيظن» وغيرها.

النعامة الصغيرة

لاحقت نجاة العديد من الألقاب، ومنها «معجزة القرن العشرين»، و»صوت الحب»، و»الصوت الدافئ»، و»صوت السكون الصاخب» الذي أطلقه عليها عبدالوهاب، ولكن أغرب الألقاب هو «النعامة الصغيرة» وأطلقه عليها الصحافي جليل البنداري، وقال لها: «أنتِ كالنعامة التي تخفي عينيها وتخفي رأسها في الرمال، كلما واجهت الخطر»، فقالت من دون تفكير: «أنا النعامة الصغيرة»، وهذا يفسر عدم خوضها معارك فنية مع منافسيها في هذا الوقت، ولكنها كانت تقطع الطريق أمام الشائعات والحكايات الملفقة التي مستها في ذروة تألقها الفني، وسلاحها الوحيد هو موهبتها الطاغية، ونجاحها الجماهيري المتواصل، وارتباطها بهيئة مستشارين تضم كوكبة من كبار الكتاب والفنانين، يسدون لها النصائح، ويمهدون لها الطريق نحو القمة.

وتأثرت نجاة إلى حد كبير بأستاذها محمد عبدالوهاب، وأخذت منه بعض صفاته، مثل الدقة الشديدة في العمل، والحرص الأقرب إلى «الوسوسة» في اختيار أغانيها، وعُرف عنها تشاؤمها من يوم الثلاثاء، فلا تحب أن تصوِّر أو تسجل أغنيات في هذا اليوم، كما تسعى ألا تكون موجودة في البيت بهذا اليوم، وعندما سئُلت عن سبب ذلك، قالت إنه ضمن الأشياء التي قلدت فيها متبنيها فنياً الموسيقار محمد عبدالوهاب، والذي كان يتشاءم من يوم الأربعاء، فقررت أن تختار لها يوماً وكان الثلاثاء!

قصة حب

وقعت نجاة على سطور قصة حبها وزواجها الأول من المهندس الزراعي كمال منسي، ونشرتها في مجلة «الكواكب» المصرية في عام 1958، وأوضحت نجاة الصغيرة أن شقيقها عزالدين كانت له آراء سياسية في عهد ما قبل ثورة 1952، وقبض عليه البوليس السياسي مع عدد من أصدقائه، ومنهم صديق جمعته به علاقة قوية بعد محنة السجن، وكان يزور الأسرة بعد الإفراج عنه قبل شقيقها ليطمئن عليهم.

ووصفت الصوت الدافئ هذا الشاب قائلة: «كان مهذباً ورقيقاً ومثقفاً وسحرتني أخلاقه وأحاديثه الناضجة، فكنت استشيره في الخلافات التي بيني وبين والدي، وكان دائماً يعطيني الرأي الصائب، ولم يكن هذا الشاب يفترق عنا أنا وشقيقي الذي يقيم معي، وفي ذات يوم قال لي ببساطة وهدوء إنه يريد أن يتزوجني، فشعرت بالدماء تصعد حارة إلى رأسي، وصبغت حمرة الخجل وجنتي، ولا شك أن المفاجأة شلت لساني فلم أقل شيئاً».

ووصفت شعورها قائلة: «أحسست بسعادة غامرة، وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي، لقد تحقق الحلم وسأتزوج الرجل الذي قدرته واحترمته ووهبته قلبي الذي امتلأ له بالحب، وتزوجنا يوم 31 ديسمبر 1955، وأعتبر هذا اليوم أسعد أيام حياتي، فقد اكتملت فيه سعادتي، ووجدت أخيراً الصدر الحاني الذي يحميني من الشقاء ويحيطني بالحب والحنان، بعد أن حُرمت منه في طفولتي وصباي من كل حنان وحب».

حاولت نجاة وزوجها أن يتكتما النبأ عن الصحف حتى لا تُثار حوله ضجة، وتحاك حوله قصص وروايات وشائعات، «ولكن تسرب الخبر وتلقفته الصحف كالعادة لتصنع منه حادثاً مثيراً، وقيل يومها إن زوجي ضابط بوليس، وقيل إنه موسيقار ولكن لم يقل أحد أبداً إنه مهندس زراعي، وهذا هو الواقع».

وانتهت نجاة بقولها: «وبعد شهور من الزواج وقفت على أعتاب حادث سعيد فاعتكفت في البيت فترة أنجبت خلالها ابني الوحيد (وليد)، وملأ البيت سعادة فوق سعادة، وصبغ نظرتنا للدنيا بلون الورد، وحمل لنا الأمل والرجاء في المستقبل».

الخوف من الكاميرا بعد فشل «بنت البلد»

تألقت نجاة مطربة لامعة في منتصف الخمسينيات، ولكنها رفضت العروض السينمائية التي انهالت عليها، بعد فشل فيلمها الثاني «بنت البلد» عام 1955 للمخرج حسن الصيفي، وطرق المنتجون والمخرجون بابها من دون فائدة، وحاول أحدهم إقناعها بالعودة إلى السينما، وحدَّد لها أجراً قيمته 5 آلاف جنيه (مبلغ كبير في ذلك الوقت)، ولكنها أرجأت التفكير في الوقوف أمام الكاميرا سنوات طويلة.

وكانت نجاة شاركت في بطولة «بنت البلد» مع نجم الكوميديا إسماعيل ياسين، واستيفان روستي، والسيد بدير، والراقصة كيتي، ومحمد التابعي، وحسن حامد، ودارت أحداثه في إطار كوميدي حول سفر إسماعيل ابن عبدالرحيم كبير قرية «الرحيمية قبلي» إلى باريس لتلقي علومه، ويصادفه محتال ويوقعه في شباك راقصة تبتز أمواله، وتطالبه بالزواج، فيرسل إسماعيل لوالده يطالبه بمبلغ كبير لإتمام زواجه، ويثور الأب ويسافر إلى باريس وترافقه ابنة أخيه بدرية (نجاة) التي تحب ابن عمها، لإقناعه بالعودة إلى مصر مرة أخرى.

وفي حوار أجرته معها مجلة «الجيل» بتاريخ 4 فبراير 1957، كشفت نجاة عن أسباب مقاطعتها السينما، قائلة: «انهالت علي العروض لكي أعمل في السينما، ولكني رفضت بعد ظهوري في دور صغير بفيلم «هدية» عام 1947 للمخرج محمود ذوالفقار، والفيلم الثاني «بنت البلد» الذي أصابني بخوف شديد من الوقوف أمام الكاميرا، وتكرار تجربة الفشل مجدداً بعد أن قمت للمرة الأولى بدور البطولة».

وبصراحتها المعهودة، قالت: «لم يكن الدور مناسباً لشخصيتي، فقد كان الفيلم من النوع الكوميدي، وكان بطله الفنان إسماعيل ياسين، وأنا بطبيعتي أميل إلى تمثيل الأدوار التراجيدية، وصوتي نفسه به رنّة حزن، فلم أكن على طبيعتي، وأبالغ في تمثيل المواقف المضحكة، ولهذا فشلت في دور «بنت البلد» ونتج عن فشلي أن أصبحت أخاف الوقوف أمام الكاميرا، مع أنني لا أشعر بذرة من الخوف وأنا أواجه آلاف المستمعين على المسرح، بعكس كثير من الفنانين الذين يرتعدون خوفاً من مواجهة الجمهور، ويصيبهم الارتباك أثناء الحفلات الغنائية».

وذكرت نجاة أن أهم الأسباب لرفضها الظهور في السينما يرجع إلى أن معظم المنتجين والمخرجين أرادوا استثمارها كمطربة ناجحة، لا لأنها ممثلة موهوبة، وأنها لا تحب أن تقدم للجمهور تمثيلاً هزيلاً، تقحم فيه الأغنيات التي من الممكن أن تقدمها من خلال الإذاعة أو حفلاتها.

وقالت صاحبة الصوت الدافئ: «أنا أريد أن يكون مستوى تمثيلي مثل غنائي، وأن يكون الغناء عنصراً أصيلاً في الفيلم، وأن تكون القصة محبوكة وجديدة، وأن يتركني المخرج أتحرك ببساطة وبلا مبالغة، وإذا توافرت هذه الشروط فلن أتردد في قبول العودة إلى السينما، وقد جاهدت منذ كنت طفلة صغيرة لكي اكتسب مكانة في عالم الغناء، ولن أضيع ثقة الناس في فني، ولو من أجل ملايين الجنيهات، وإذا شعرت أنني لن أقدم لهم عملاً سينمائياً جيداً، فلن أمثل أبداً».

البقية في الحلقة المقبلة