كان كامل شاباً في الثلاثين من عمره، ويحمل شهادة متوسطة، وبعد تخرّجه فضّل أن يمتهن مهنة والده الراحل، ولم يبحث عن وظيفة حكومية، وظل يعمل على سيارة "تاكسي"، واستطاع أن يغطي نفقات أسرته المكونة من أمه وشقيقه الصغير، وكان الأخير متفوقا في دراسته، وأراد أن يكمل تعليمه حتى التخرج في الجامعة، ورغم الأعباء التي تحمّلها كامل على مدار خمس سنوات، فإن شقيقه فور تخرجه، قرر السفر إلى بلد أوروبي، وتركه مع أمهما المريضة.

واكتفى الشقيق الأصغر بإرسال خطابات إلى شقيقه، ويشكو خلالها الغربة، وأنه لا يستطيع أن يرسل نقودا لغلاء المعيشة، وأن راتبه بالكاد يكفي مأكله ومسكنه، ولا ينسى أن يطمئن على والدته المريضة في نهاية الرسالة، وتراكمت خطابات الشقيق المغترب، وحينما انتشرت مقاهي الإنترنت، بدأ التواصل بينهما عن طريق الإيميل، حتى اشتد المرض على الأم، ورغم هذا لم يفكر أن يعود لرؤيتها، وبعد وفاتها، تباعدت رسائله إلى كامل وانقطعت أخباره نهائيا.

Ad

تضاعفت أحزان كامل بفقده لأمه وسلوك شقيقه الأصغر، الذي أفسده التدليل، وحوّله إلى شخص أناني لا يقيم وزنا لصلة رحم، وتنعدم في داخله مشاعر الأخوة، وحينها صار كامل وحيدا، ويعيش في منزل تحاصره بين جدرانه الذكريات، ونصحه بعض أقاربه وجيرانه أن ينفض غبار الحزن، ويكمل مشوار حياته، فلا يزال المستقبل أمامه، وعليه أن يجتهد في عمله، وأن يبحث عن فتاة من عائلة طيبة، ويتزوجها لتنجب له ذرية صالحة.

واستطاع كامل أن يشتري سيارة بالتقسيط، وحوّلها إلى "تاكسي"، وكان يعمل لساعات طويلة، حتى يدبّر قيمة القسط الشهري ومصروفاته الخاصة، ولأول مرة يشعر أنه يحقق جزءا من أحلامه، وقرر أنه عندما ينتهي من دفع آخر قسط، سيبحث عن عروس، قبل أن يتقدم به العمر، ويفقد فرصة الاختيار الأمثل لشريكة حياته.

الدموع الكاذبة

عندما انحرف كامل بسيارته إلى شارع جانبي، لم يدرك أنه كان على موعد مع تحوّل مفاجئ لمسار حياته، وفي هذا اليوم غمرته السعادة، لأنه سدد آخر أقساط "التاكسي" وأن حصيلة دخله ستمكنه من تدبير مهر العروس ونفقات ليلة الزفاف، وانتابته رجفة حزن عندما تذكّر أمه الطيبة، وكانت أمنيتها الوحيدة أن تراه متزوجا، ولم تغضب لحظة واحدة من ابنها الثاني، والتمست له الأعذار في غربته، وظلت تدعو لهما بالخير حتى آخر لحظة في حياتها.

أفاق كامل من شروده عندما نادت عليه فتاة ترتدي نظارة سوداء و"تي شيرت وبنطلون جينز"، وقالت: "فاضي يا أسطى؟"، وحينها توقف السائق الشاب، وفوجئ بها تجلس إلى جواره، وتعجّب من جرأتها، لاسيما أن السيدات اعتدن الركوب في المقعد الخلفي، ويرفضن أن يسمح السائق بركوب شخص آخر في التاكسي أثناء الرحلة، وتذكر يوم ركبت إحدى السيدات، ورفض أن تزاحمها سيدة أخرى، وحدثت مشادة بينهما، ونهرته قائلة: "أنا راكبة تاكسي مش أتوبيس".

سألها كامل: "على فين يا آنسة؟" فقالت دون أن تنظر إليه: "الهرم"، وانطلقت السيارة، وساد بينهما الصمت للحظات، ولم يجد السائق الشاب كلمات يقولها لهذه الفتاة الجريئة، لكنها بادرته قائلة: "طبعا أنت مستغرب لأني ركبت بجوارك؟"، فقال: "الحقيقة دي أول مرة فتاة تركب بجواري"، وهنا خلعت نظارتها، وواجهته: "شوف يا أسطى أنا بنت جدعة، وباشتغل علشان أصرف على نفسي، وبعدين أنا أقدر أحمي نفسي كويس"، وتأملها بطرف عينه، كأنه يراها لأول مرة.

أثارت الفتاة فضوله، وفجّرت في داخله مشاعر متضاربة بين الإعجاب بجرأتها، وارتباكه من هجومها عليه، لكنه وجدها فرصة ليتجاذب معها أطراف الحديث، وقالت إنها تعمل في أحد محال الملابس بوسط العاصمة، وأن اسمها فايزة، وفاجأته مرة أخرى بدموعها التي انسالت على وجهها، وارتبك كامل، وسألها عن سبب بكائها، وبعد لحظات من الصمت: "أنا كل يوم بأواجه سخافات كثيرة، تنغص عليّ حياتي، لأني فتاة جميلة، ويظن المتجردون من أخلاقهم أنني فريسة سهلة، ويصيبني التوتر من صد هجومهم".

كاد السائق الشاب يصطدم بسيارة أمامه، من فرط انتباهه لما تقوله فايزة، فقد أسره كلامها المتدفق بعفوية شديدة، وشعر أن هذا يوم طيب للحياة، فقد سدد آخر أقساط سيارته، وعثر على فتاة أحلامه التي تمنّى أن يصادفها في أرض الواقع، وعلى الفور أخذته الحمية والشهامة، وقال لها: لا تخشي شيئا، وعليك أن تكوني قوية في مواجهة الأوغاد، مهما كانت العواقب"وشكرته فايزة على مشاعره النبيلة، وقالت: أنا مش عارفة ليه اتكلمت معاك أنت بالذات، وشعرت بارتياح كأني أعرفك من زمان.. أشكرك مرة ثانية".

انفرجت أسارير كامل، وقال لها إن المصادفة وحدها كانت وراء لقائه بفتاة في مثل أخلاقها، وصمت للحظات كأنها ساعات طويلة، ويداه ترتعشان فوق عجلة القيادة، واضطربت ملامحه تماما، بينما ابتسامة غريبة ارتسمت على وجه فايزة، وقد أدركت أنه وقع في غرامها، وسألته: "أنت سكت ليه؟" فقال إنه يريد الزواج منها، فردت عليه دون تردد: "لكنني لا أعرفك سوى من دقائق"، وخيّم الصمت عليهما من جديد، وشعر مرة أخرى بالارتباك، وهي تخرج من حقيبتها بعض النقود، وتمدها إليه قائلة: "سأنزل هنا"، وحين غادرت السيارة، ظل واقفا في مكانه، وبعد أن تحركت عدة خطوات، عادت مبتسمة، وقالت له: سأنتظرك غدا في نفس الموعد والمكان، ونكمل كلامنا" وظل يراقبها من مرآة السيارة حتى اختفت.

فتاة الأحلام

استغرق كامل في استعادة تفاصيل لقائه بفايزة الحسناء، وكيف تتابعت اللحظات على نحو غير متوقع، وانتهت بطلبه الزواج من فتاة لا تعرفه ولا يعرفها، وقد وقع في غرامها دون أن يحتاط لنفسه، ويتيقن أنها تصلح لتكون زوجته في المستقبل، وبعد طول تفكير، أدرك أن الوقت لا يزال في صالحه، ليتعرف عليها أكثر، لكن الشكوك ساورته أنها قد تختفي ولا يراها مرة ثانية.

كان أصدقاؤه يطلقون عليه "كامل العاطفي"، ويدركون أن نواياه الطيبة قد تسبب له أزمات عديدة، وأن الفتاة التي رسمها في خياله، ليس لها وجود في الواقع، وأن عليه أن يتريث في اختياره، ولا يندفع وراء رومانسيته، وعليه أن يختار الزواج من فتاة صالحة، وليس بالضرورة أن تكون باهرة الجمال.

مضت عدة ساعات قبل أن يعود في المساء إلى منزله، وعلى غير عادته مر من أمام المقهى، وحيّا أصدقاءه في عجلة، وتركهم يتعجبون من شروده، لكن صديقه فهمي لحق به، وسأله عن الأمر، فأخبره كامل أنه متعب من العمل طوال النهار، ويريد أن يستريح، وصافحه مطمئنا إياه أنه بخير، وتدارك قائلا: "على فكرة يا فهمي أنا خلصت سداد الأقساط"، فهنأه صديقه "ألف مبروك يا كامل.. أنت تستاهل كل خير".

انتهى كامل من تناول عشاء خفيف، وجلس في شرفته يحتسي كوبا من الشاي، وبعد دقائق داعبه النعاس، فذهب إلى فراشه واستغرق في نوم عميق، وحين أفاق على صوت المنبه، نهض مسرعا، وتأهب للخروج مبكرا، وبدأ يحصي الثواني والدقائق على موعده مع الفتاة الحسناء.

الخاتم الذهبي

ظل كامل يجوب بسيارته شوارع القاهرة، حتى حان الموعد المرتقب، وزادت خفقات قلبه، عمدما رأى فايزة واقفة في انتظاره، وفتح لها الباب لتركب بجواره، وتغلّب على ارتباكه، وسألها عن المكان الذي تفضله، فقالت متكدرة: كنت أحسبه مفاجأة أنت محضرها.. مفيش مشكلة.. اطلع بينا على مكان هادئ على شاطئ النيل"، وهناك أخبرها بقصته كاملة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة غريبة، أثارت قلقه، ولم تقل شيئا سوى أن يحدد موعد التقدم لخطبتها من أهلها.

في اليوم المحدد ذهب كامل إلى منزل الفتاة التي اختارها قلبه، واصطحب معه صديقه فهمي وأحد أقاربه إلى منزل بشارع الهرم، واستقبلتهم الأسرة بترحاب شديد، وانطلقت الزغاريد بعد أن أخرج من جيبه علبة صغيرة، وأخرج منها خاتما ذهبياً و"دبل الخطوبة"، وانشغلت فايزة بالنظر إلى الخاتم في إصبعها، وانتبه كامل إلى أن قريبه وصديقه ارتسمت على ملامحهما عدم الارتياح، وينظران إلى خطيبته التي صبغت وجهها بالمساحيق بشيء من الامتعاض.

ولم تمض سوى أيام قليلة على حفل "الخطوبة" حتى تزايدت مطالب أهل خطيبته، واشترطوا عليه عند عقد القران، أن يحرر شيكا بمبلغ ضخم، ضمانا لحقوق ابنتهم، مادام يرغب في الزواج منها، وضمانا لها عندما يسيء إليها في يوم من الأيام، بدوره قال لهم إن هذا الأمر سابق لأوانه، وكل عقدة ولها حل، لكن فايزة تغيّرت أحوالها، وافتعلت الكثير من الخلافات، وكفّت عن انتظاره بعد خروجها من العمل، وحين يذهب إلى زيارتها، تخبره أمها أنها خرجت لزيارة إحدى صديقاتها.

واستبدت به الظنون والأوهام. وقرر كامل أن يراقب سلوك خطيبته الحسناء، حتى رآها ذات يوم تسير مع شاب وتتأبط ذراعه، وهي تنظر في عينيه، ووقعت الصدمة عليه كالصاعقة، وزلزلت الأرض تحت قدميه وانهارت أحلامه أمام عينيه، ولم يدر ماذا يفعل، وتسارعت أنفاسه، لكنّه عاد ليستقل "التاكسي" ويفكر في الانتقام منها، وأن يكشف خداعها أمام أسرتها.

في الطريق إلى منزل فايزة، ساورت كامل الظنون، هل ما رآه حقيقة، وهل خدع فعلا في الفتاة التي خفق لها قلبه؟

وأمام أفراد أسرتها واجهها بالحقيقة، لكنها رفضت أن تخلع القناع عن وجهها القبيح، وصرخت في وجهه أن اتهاماته لها باطلة، وإذا لم يكفّ عن أوهامه فلن تقبله زوجا لها، وارتبك الشاب، وقد حاصره أفراد أسرتها، وكادوا يفتكون به، لأنه يطعن في شرف ابنتهم العفيفة، واتهموه بأنه يريد تلويث سمعتهم، وطلبوا منه ألا يعود مرة أخرى، وإلا سيلقى أشد العقاب.

أدرك كامل أنه وقع في شرَك فايزة وأسرتها، وأنهم أرادوا ابتزازه، وأن هذا الأمر تكرر كثيرا، وبعد أن ساءت سمعتها، لم يعد أحد يتقدم للزواج منها، ولذلك نسجت حوله شباكها، وهي ماضية في طريق الغواية والرذيلة، كعادتها في الإيقاع بالسذّج والبلهاء من أمثاله.

وفي تلك الليلة ذهب إلى المقهى، وجلس مع صديقه فهمي، وأخبره بما حدث، فنصحه أن يبتعد عن هذه الفتاة تماما، ولا يفكر فيها بعد الآن، ويحمد الله على نجاته من شرها، لكن الشيطان وجد الفرصة سانحة، ليوسوس إليه بالانتقام، وبدلا من أن يذهب إلى حال سبيله، أراد الثأر لكرامته من الشاب الذي خطف فتاة أحلامه.

وبعد أيام قليلة عرف كل شيء عن "غريمه"، واستل من المطبخ "سكينا" وخبأها في ملابسه، وخرج من الشقة مسرعا، وبعد دقائق كان ينادي عليه، وطعنه في صدره، وانطلق هاربا بسيارته، وسط ذهول المارة الذين سارعوا بنقل الشاب الجريح إلى أقرب مستشفى، والدماء تسيل منه بغزارة، وهو بين الحياة والموت.

اختفى كامل عن الأنظار في شقته، ولم يخرج منها لعدة أيام، حتى تمكّن رجال الشرطة من القبض عليه، واعترف أمام المحقق بجريمته، وأنه كان مدفوعا بوازع الانتقام من غريمه بعد أن فضّلته فايزة عليه، وأنها دمرت حياته بخداعها واستهتارها، وبعد انتهاء أقواله، أمر المحقق بحبسه على ذمة التحقيق، انتظارا لما تسفر عنه الحالة الصحية للمجني عليه، وأخذ أقواله بعد أن يفيق من غيبوبته، لحين تقديم الجاني لمحاكمة عادلة.