لما كانت الليلة الثانية والثمانون بعد الخمسمئة، قالت شهرزاد: ثم قام الوزير السادس وقال: لقد تقدم من قول المتقدمين أن من صلى وصام وقام بحقوق الوالدين وعدل في حكمه لقي ربه وهو راض عنه وقد وليت علينا فعدلت فكنت بذلك سعيد الحركات، فأسأل الله تعالى أن يجزل ثوابك ويأجرك على إحسانك، وقد سمعت ما قال هذا العالم فيما نتخوف من حرمان حظنا بدم الملك، ويوجد ملك آخر لا يكون، فيتضاعف اختلافنا بعده ويقع البلاء في الاختلاف، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فواجب علينا أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء لعله يهب للملك ولداً سعيداً ويجعله وارثاً للملك بعده. ثم بعد ذلك ربما كان الذي يحبه الإنسان من الدنيا ويشتهيه مجهول العاقبة له، وحينئذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه أمراً لا يدري عاقبته، لأنه ربما كان ضرر ذلك أقرب إليه من نفعه، فيكون هلاكه في مطلوبه، ويصيبه مثل ما أصاب الحاوي وزوجته وأهل بيته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
غيرة الزوجة
وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد ان الملك قال: وما حكاية الحاوي وزوجته وأهل بيته؟ فقال الوزير: اعلم أيها الملك أنه كان هناك إنسان حاو، وكان يربي الحيات وهذه كانت صنعته، وكان عنده سلة كبيرة فيها ثلاث حيات لم يعلم بها أهل بيته، وكان كل يوم يخرج يدور بها في المدينة ويتسبب بها، بتحصيل رزقه ورزق عياله ويرجع عند المساء إلى بيته ويضع الأحناش في السلة سراً وعند الصباح يأخذها ويدور بها في المدينة، فكان هذا دأبه على الدوام، ولم يعلم أهل بيته بما في السلة فجاء إلى بيته على عادته يوماً فسألته زوجته وقالت له: ما في السلة؟ فقال لها الحاوي: وما مرادك منها؟ أليس الزاد عندكم كثيراً زائداً، فاقنعي بما قسم الله لك ولا تسألي عن غيره، فسكتت، لكنها صارت تقول في نفسها: لا بد لي أن أفتش هذه السلة وأعرف ما فيها، وصممت على ذلك، وأعلمت أولادها، وأكدت عليهم أن يسألوا والدهم عن تلك السلة ويلحوا عليه في السؤال لأجل أن يخبرهم، فعند ذلك تعلق خاطر الأولاد بأن فيها شيئا يؤكل، فصار الأولاد كل يوم يطلبون من أبيهم أن يريهم ما في السلة، وكان أبوهم يدفعهم ويراضيهم وينهاهم عن هذا السؤال، فمضت لهم مدة وهم على ذلك الحال وأمهم تحثهم على ذلك. ثم اتفقوا معها على أنهم لا يذوقون طعاماً ولا يشربون شراباً لوالدهم حتى يبلغهم طلبهم ويفتح لهم السلة، فبينما هم كذلك ذات ليلة إذ حضر الحاوي ومعه شيء كثير من الأكل والشرب، فقعد ودعاهم ليأكلوا معه فأبوا الحضور إليه فجعل يلاطفهم بالكلام الحسن ويقول له: انظروا ماذا تريدون حتى أجيء به إليكم أكلاً أو شرباً أو ملبوساً فقالوا له: يا والدنا ما نريد منك إلا فتح هذه السلة لننظر ما فيها، وإلا قتلنا أنفسنا فقال لهم: يا أولادي ليس لكم فيها خير، وإنما فتحها ضرر لكم فعند ذلك ازدادوا غيظاً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
السلة القاتلة
وفي الليلة الرابعة والثمانين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاوي قال لأولاده: إن فتح السلة فيه ضرر لكم فازدادوا غيظاً فلما رآهم على هذه الحالة أخذ يهددهم ويشير لهم بالضرب إن لم يرجعوا عن تلك الحالة فلم يزدادوا إلا غيظاً ورغبةً في السؤال فعند ذلك غضب عليهم وأخذ عصاً ليضربهم بها فهربوا من قدامه في الدار وكانت السلة حاضرة لم يخفها الحاوي في مكان فخلت المرأة الرجل مشغولاً بالأولاد وفتحت السلة بسرعة لكي تنظر ما فيها، وإذا بالحيات قد خرجت من السلة فلدغت إحداهن المرأة فماتت، ثم دارت الأفاعي في الدار وهلك الكبار والصغار ما عدا الحاوي، فترك الحاوي الدار وخرج، فلما تحقق ذلك أيها الملك السعيد علمت أن الإنسان ليس له أن يتمنى شيئا لم يرده الله تعالى، بل يطيب نفساً بما قدره الله تعالى وأراده، وأنت أيها الملك مع غزارة علمك وجودة فهمك أقر الله عينك بحضور ولدك بعد اليأس وطيب قلبك، ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله من الخلفاء العادلين المرضين لله تعالى والرعية.العنكبوت والريح
ثم قام الوزير السابع، وقال: أيها الملك إني قد علمت وتحققت مما ذكره لك إخوتي هؤلاء الوزراء العلماء وما تكلموا به في حضرتك أيها الملك وما تميزت به عمن سواك من الملوك حيث فضلوك عنهم وذلك من بعض الواجب علينا، وأما أنا فأقول الحمد لله الذي ولاك نعمته وأعطاك صلاح الملك برحمته وأعانك وإيانا على أن تزيده شكراً وما ذاك إلا وجودك وما دمت فينا لم نتخوف جوراً ولا نبغي ظلماً ولا يستطيع أحد أن يستطيل علينا مع ضعفنا وقد قيل: إن أحسن الرعايا من كان ملكهم عادلاً وشرهم من كان ملكهم جائراً. وقيل أيضاً: السكنى مع الأسود الكواسر ولا السكنى مع السلطان الجائر، فالحمد لله تعالى على ذلك حمداً دائماً حيث أنعم علينا بوجودك ورزقك هذا الولد المبارك بعد اليأس والطعن في السن، لأن أجمل العطايا في الدنيا الولد الصالح، وأنت بقويم عدلك وحسن ظنك بالله تعالى أعطيت هذا الولد السعيد، فجاءك هذا الولد المبارك منة من الله تعالى علينا وعليك بحسن سيرتك وجميل صبرك وصار فيك ذلك مثل ما صار في العنكبوت والريح، فقال الملك: وما حكاية العنكبوت والريح. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وفي الليلة الخامسة والثمانين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال للوزير: وما حكاية العنكبوت والريح؟ فقال الوزير: أعلم أيها الملك أن عنكبوتا تعلقت في باب متنح عال وعملت لها بيتاً وسكنت فيه بأمان ثم هبت ريح عاصفة شرقية فحملتها هي وبيتها ورمتها في البحر فجرتها الأمواج إلى البر، فقالت العنكبوت: أيتها الريح لم فعلت بي ذلك؟ وما الذي حصل لك من الخير في نقلي من مكاني إلى هنا وقد كنت آمنة مطمئنة في بيتي بأعلى ذلك الباب؟ فقالت لها الريح: انتهي عن العتاب فإني سأرجع بك وأوصلك إلى مكانك كما كنت أولاً فلبثت العنكبوت صابرةً على ذلك راجيةً أن ترجع إلى مكانها حتى ذهبت ريح الشمال ولم ترجع بها وهبت ريح الجنوب فمرت بها واختطفتها وطارت بها إلى جهة ذلك البيت فلما مرت به عرفته فتعلقت به. ونحن نسأل الله الذي أثاب الملك على وحدته وصبره ورزقه هذا الغلام بعد يأسه وكبر سنه ولم يخرجه من هذه الدنيا حتى رزقه قرة عين له ووهب له ما وهب من الملك والسلطان، فرحم رعيته وأولاهم نعمته. فقال الملك: الحمد لله فوق كل حمد والشكر له فوق كل شكر، لا إله إلا هو خالق كل شيء الذي عرفنا نور آثاره وجلال عظمته يؤتي الملك والسلطان من يشاء من عباده، أنا عبد مأمور وقلبي بيده ولساني تابع له راض بما حكم الله علي، فلما فرغ من كلامه قام الحكماء والعلماء وسجدوا لله وشكروا الملك وقبلوا يديه وانصرف كل واحد منهم إلى بيته.قصر العلوم
دخل الملك بيته وأبصر غلامه وردخان ودعاه له فلما تم له من العمر اثنتا عشرة سنة أراد الملك أن يعلمه العلوم، فبنى له قصراً في وسط المدينة وبنى فيه 360 مقصورة وجعل الغلام فيه ورتب له 3 من جهابذة العلماء ومهرة الحكماء وأمرهم ألا يغفلوا عن تعليمه ليلاً ونهاراً، وأن يجلسوا معه في كل مقصورة يوماً، ويحرصوا على ألا يكون علم إلا ويعلمونه إياه حتى يصير بجميع العلوم عارفاً ويكتبون على باب كل مقصورة ما يعلمونه له فيها من أصناف العلوم يرفعون إليه في كل سبعة أيام ما عرفه من العلوم. ثم إن العلماء أقبلوا على الغلام وصاروا لا يفترون عن تعليمه ليلاً ونهاراً ولا يؤخرون عنه شيئا مما عندهم من العلوم، فظهر للغلام من ذكاء العقول وجودة الفهم وقبول العلم ما لم يظهر لأحد قبله وجعلوا يرفعون للملك، وفي كل أسبوع مقدار ما تعلمه ولده وأتقنه، فكان الملك يستظهر من ذلك علماً حسناً وأدباً جميلاً، وقال العلماء: ما رأينا قط من أعطى فهماً مثل هذا الغلام فبارك الله لك فيه ومتعك بحياته. فلما أتم الغلام مدة اثنتي عشرة سنة حفظ من كل علم أحسنه، وفاق جميع العلماء والحكماء الذين في زمانه فأتى به العلماء إلى الملك والده وقالوا له: أقر الله عينيك أيها الملك بهذا الولد السعيد وقد أتيناك به بعد أن تعلم كل علم حتى لم يكن أحد من علماء الوقت وحكمائه بلغ من بلغه ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وزاد شكره لله تعالى، وخر ساجداً لله عزوجل وقال: الحمد لله على نعمه التي لا تحصى ثم دعا بالوزير شماس وقال له: أعلم يا شماس أن العلماء قد أتوني وأخبروني أن ابني هذا قد تعلم كل علم ولم يبق من العلوم علم إلا وقد علموه له حتى فاق من تقدمه في ذلك فما تقول يا شماس؟ فسجد عند ذلك لله عزوجل وقبل يد الملك وقال: أبت الياقوتة ولو كانت في الجبل الأصم إلا أن تكون مضيئةً كالسراج وابنك هذا جوهرة فما تمنعه حداثته من أن يكون حكيماً والحمد لله على ما أولاه وأنا إن شاء الله تعالى في غد أسأله واستيقظه بما عنده في مجمع أجمعه له من خواص العلماء والأمراء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وردخان يناظر العلماء
وفي الليلة السادسة والثمانين بعد الخمسمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك جليعاد لما سمع كلام شماس أمر جهابذة العلماء وأذكياء الفضلاء ومهرة الحكماء في الهند أن يحضروا إلى قصر الملك في غد فحضروا جميعاً فلما اجتمعوا على باب الملك أذن لهم بالدخول. ثم حضر شماس الوزير وقبل يدي ابن الملك فقام ابن الملك وسجد للشماس.وفي الليلة السابعة والثمانين بعد الخمسمئة قالت: لم يعجب الشماس تصرف الولد، فقال له الشماس: لا يجب على شبل الأسد أن يسجد لأحد من الوحوش، ولا ينبغي أن يقترن النور بالظلام، قال الغلام: إن شبل الأسد لما رأى وزير الملك سجد له، فعند ذلك قال له الشماس: أخبرني ما الدائم المطلق وما كوناه وما الدائم من كونيه؟ قال الغلام: أما الدائم المطلق فهو الله عزوجل لأنه أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء وأما كوناه فالدنيا والآخرة وأما الدائم من كونيه فهو نعيم الآخرة.قال الشماس: صدقت فيما قلت وقبلته منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن أحد الكونين هو الدنيا وثانيهما هو الآخرة. قال الغلام لأن الدنيا خلقت ولم يكن من شيء كائن فآل أمرها إلى الكون الأول غير أنها عرض سريع الزوال مستوجب الجزاء على الأعمال وذلك يستدعي إعادة الفاني، فالآخرة هي الكون الثاني، قال الشماس: صدقت فيما قلت وقبلت منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن نعيم الآخرة هو الدائم من الكونين، قال الغلام: علمت ذلك من أنها دار الجزاء على الأعمال التي أعدها الباقي بلا زوال، قال الشماس: أخبرني أي أهل الدنيا أحمد عملاً؟ قال الغلام: من يؤثر آخرته على دنياه؟ قال الشماس ومن الذي يؤثر آخرته على الدنيا، قال الغلام: من كان يعلم أنه في دار منقطعة وأنه ما خلق إلا للفناء وأنه بعد الفناء يحاسب.شقوق العسل
وقال الشماس: أخبرني، هل تستقيم آخرة بغير دنيا، قال الغلام: من لم يكن له دنيا فلا آخرة له، ولكن رأيت الدنيا وأهلها والمعاد الذي هم سائرون إليه كمثل أهل هذه الضياع الذين لهم أمير له بيت ضيق، وأدخلهم فيه وأمرهم بعمل، فمنهم ما أمر به أخرجه الشخص الموكل به من ذلك الضيق، ومن لم يعمل ما أمر به، وقد انقضى الأجل المضروب له عوقب. فبينما هم كذلك إذ رشح لهم من شقوق البيت عسل فلما أكلوا من العسل وذاقوا طعمه وحلاوته ترانوا في العمل الذي أمروا به ونبذوه وراء ظهورهم وصبروا على ما هم فيه من الضيق والغم مع ما علموا من تلك العقوبة التي هم سائرون إليها وقنعوا بتلك الحلوى اليسيرة وصار الموكل بهم لا يدع أحداً منهم إذا جاء أجله إلا ويخرجه من ذلك البيت، فعرفنا أن داراً تتحير فيها الأبصار وضُرِب لأهلها فيها الأجل، فمن وجد الحلاوة القليلة التي تكون في الدنيا وأشغل نفسه بها كان من الهالكين، حيت آثر أمر دنياه على آخرته، ومن يؤثر آخرته على دنياه ولم يلتفت إلى تلك الحلاوة القليلة كان من الفائزين.عادل وجائر
قال الشماس: قد سمعت ما ذكرت من أمر الدنيا والآخرة وقبلت ذلك منك، ولكني قد رأيتهما مسلطتين على الإنسان فلا بد له من إرضائهما، فإن أقبل العبد على طلب المعيشة فذلك إضرار بروحه في المعاد، وإن أقبل على الآخرة كان ذلك إضراراً بجسده، وليس له سبيل إلى إرضاء المتخلفين معاً. قال الغلام: إنه ما حصل المعيشة من الدنيا تقوى على الآخرة فإني رأيت أمر الدنيا والآخرة مثل ملكين عادل وجائر، وكانت أرض الملك الجائر ذات أشجار وأثمار ونبات وكان ذلك الملك لا يدع أحداً من التجار إلا أخذ ماله وتجارته، وهم صابرون على ذلك لما يصيبونه من خصب تلك الأرض في المعيشة.وأما الملك العادل فإنه بعث رجلاً من أهل أرضه وأعطاه مالاً وافراً وأمره أن ينطلق إلى أرض الملك الجبار ليبتاع به جواهر منه، فانطلق ذلك الرجل بالمال حتى دخل تلك الأرض، فقيل للملك إنه جاء إلى أرضك رجل تاجر ومعه مال كثير يريد أن يبتاع به جواهر منها، فأرسل إليه وأحضره وقال له: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ ومن جاء بك إلى أرضي؟ وما حاجتك؟ فقال له: إني من أرض كذا وكذا، وإن ملك تلك الأرض أعطاني مالاً وأمرني أن أبتاع له به جواهر من هذه الأرض فامتثلت أمره وجئت. فقال له الملك: ويحك أما علمت صنعي بأهل أرضي من أني آخذ مالهم في كل يوم فكيف تأتيني بمالك وها أنت مقيم في أرضي منذ كذا وكذا، فقال له التاجر: إن الملك ليس لي منه شيء، وإنما هو أمانة تحت يدي حتى أوصله إلى صاحبه، فقال له: إني لست بتاركك تأخذ معيشتك من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال جميعه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وإلى اللقاء في حلقة الغد