كانت نجاة على موعد مع المتاعب خلال مشوارها الفني، واقترنت معظم أغنياتها بسلسلة من الأزمات، وامتزج التألق مع توتر علاقتها ببعض زملائها الملحنين والمطربين، وارتكنت عصفورة الغناء إلى موهبتها الطاغية وحب الجمهور لأدائها الراقي، وعذوبة صوتها التي تسري في وجدان عشاق الطرب الأصيل، وأوصدت بابها في وجه الشائعات، وكرَّست حياتها لفنها وابنها الوحيد وليد.وفي عام 1962، هبّت عاصفة جديدة في حياة المطربة الرقيقة، عندما قامت ببطولة فيلم «الشموع السوداء» سيناريو وإخراج عزالدين ذوالفقار، الذي حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وغنت خلاله بعض الأغنيات، منها قصيدة «لا تكذبي» للشاعر كامل الشناوي، وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وأغنية «كل شيء راح» تأليف الشاعر إسماعيل الحبروك، وألحان بليغ حمدي، و«اشمعنى ده» للشاعر مرسي جميل عزيز، وألحان محمد الموجي.
واعتبر النقاد أن المخرج عزالدين ذوالفقار، أظهر نجاة بأداء مقنع على الشاشة، وعبّرت أغنياتها عن السياق الدرامي للفيلم، وتناغمت مع مضمون قصيدة الشناوي، وتدور أحداث الفيلم حول قصة شاعر أدمته خيانة حبيبته، وفقد بصره، وقام بدوره لاعب الكرة الشهير وقتذاك صالح سليم، وتساعده ممرضته إيمان (نجاة) على اجتياز أزمته.ولكن الأمور خرجت عن السيطرة، عندما تحولت «لا تكذبي» إلى اتهام يلاحق عصفورة الغناء، وأنها بطلة القصيدة التي دارت معانيها حول الخيانة، وهو الموضوع الأثير لدى الشاعر كامل الشناوي، وورد في قصائد أخرى مثل «حبيبها» التي لحنها محمد الموجي، وغناها عبدالحليم حافظ.وفي ذلك الوقت، انتشرت على صفحات الجرائد والمجلات الأخبار التي تؤكد وجود قصة حب بين مطربة وشاعر كبير، وأن «لا تكذبي» كتبها كامل الشناوي عن قصة حب حقيقية، وقيل إنه كتبها في نجاة بعد أن أضناه حبها، ومنحها من وقته وشعره وقلبه الكثير، بينما لم تمنحه هي أي شيء، ونفى آخرون هذه الرواية، واعتبروها محض افتراء على نجاة، وشائعة زاد من انتشارها صمت نجاة وابتعادها عن الخوض في حياتها الخاصة طوال مشوارها الفني.
قصة «لا تكذبي» سردها الصحافي مصطفى أمين في كتابه «شخصيات لا تنسى» بقوله: «(لا تكذبي) كتبها كامل في غرفة مكتبه بالزمالك، وهي قصيدة ليس فيها مبالغة أو خيال، وكان كامل ينظمها وهو يبكي، وكانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها، وبعد أن انتهى من نظمها قال إنه يريد أن يقرأ القصيدة على المطربة عبر التليفون، واتصل بها وبدأ كامل يلقي القصيدة بصوت منتحب خافت، تتخلله الزفرات والعبرات والتنهدات والآهات، مما كان يقطع القلوب، وكانت المطربة صامتة لا تقول شيئاً، ولا تعلِّق، ولا تقاطع، ولا تعترض، وبعد أن انتهى كامل من إلقاء القصيدة قالت المطربة: (كويسة قوي... تنفع أغنية... لازم أغنيها)».كتب الشناوي كثيراً عن حبه الكبير لنجاة، وكان حباً من طرفٍ واحد، ولم تبادله المشاعر ذاتها، وكان يعلم ذلك، لكنه لا يستطيع أن يتوقف عن حبها، بل كان عذابه يستوحش أثناء الخصام فلا يتحمل بعدها أو فراقها، كما ذكر أحد المواقف بينهما التي جعلته يشعر بالصدمة والألم عام 1962، عندما دعته إلى حفل عيد ميلادها، اشترى الهدايا، وحضر برفقة أصدقائه في شقتها بالزمالك، وعند إطفاء الشموع اختارت الكاتب يوسف إدريس ليقطع التورتة معها ممسكاً بيدها، فانسحب الشاعر حزيناً باكياً.وتضاعفت أحزان الشاعر الرومانسي، فكتب كلماته «لا تكذبي إني رأيتكما معاً»، ونتجت عن الألم والحب في قلبه قصائد رائعة أخرى، فغنى عبدالحليم حافظ «حبيبها لست وحدك، حبيبها أنا قبلك وربما جئت بعدك وربما كنت مثلك»، وغنى فريد الأطرش «عدت يا يوم مولدي، عدت يا أيها الشقي»، ولازمه هذا الطابع الهجائي لمحبوبته التي لا تبادله نفس الشعور، بينما ظل مخلصاً لها، ودخل في نوبة اكتئاب حتى وفاته في 30 نوفمبر 1965.وقال مصطفى أمين إن لعنة الحب الفاشل أصابت صديقه الشاعر، حتى انه كان يشعر أن هجرة محبوبته قتلته، ولم يبق سوى موعد تشييع الجنازة، وكان يجلس يومياً يكتب عن عذابه، وأصبح يتردد على المقابر، وحينما سأله عن ذلك، أجابه بابتسامة حزينة: «أريد أن أتعوّد على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد”.وكانت آخر كلمات الشناوي قبل أن يغيبه الموت ويصف من خلالها حياته: «ولكن أيامي اليوم قليلة,.. وانتزاع عام منها يشعرني بالفقر والفراغ والعدم، فمنذ تجاوزت الأربعين وحدي... كما تجاوزت ما قبلها... لا صحة ولا مال ولا زوجة ولا ولد ولا صديق... ولكن لماذا نبكي الحياة؟... وماذا لو رحلت عنا أو رحلنا عنها؟... ما دام الرحيل هو الغاية والهدف”.لم يصرح أمين باسم المطربة التي هاتفها الشناوي، ليسمعها قصيدته بصوت منتحب، ما جعل نجاة في مرمى الاتهام، ونفت عن نفسها التهمة، وقالت إن الشناوي بمنزلة الوالد والصديق الذي تكن له مشاعر الاحترام، وحينئذ تدخل الموسيقار عبدالوهاب ليصلح بين الصحافي الشهير والمطربة التي اشترطت أن يكتب اعتذاراً في الصحيفة، لكنه رفض، وانتهى الأمر في ساحة المحكمة، وخسرت مطربة «لا تكذبي» القضية.
ساكن قصادي
ارتبط صوت نجاة بقصائد الكثير من الشعراء، ولعل أبرزهم الشاعر حسين السيد، وكان لقاؤهما الأول عام 1955 في أغنية «يا قلبك» ألحان رياض السنباطي، وبعدها قدمت العديد من أغاني السيد بألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، ومنها «ساكن قصادي»، و«آه لو تعرف»، و«شكل تاني» وأعادت المطربة غناء «يا مسافر وحدك» في عام 1995، بينما قدمت أغنيات قليلة لنفس الشاعر من ألحان آخرين، منها «حبك الجبار» تلحين بليغ حمدي، و«الشمس مروحة» ألحان محمد الموجي.وتعد «ساكن قصادي» أغنية فارقة لنجاة، وكانت تعرف أن الشاعر حسين السيد يمتلك موهبة كتابة هذا اللون من الغناء العاطفي، في إطار يشبه القصة أو الحكاية المغناة، فطلبت منه أن يصوغ فكرة في هذا السياق الدرامي، وحين انتهى من كتابتها ذهب بها إلى الموسيقار عبدالوهاب، فتحمس لتلحينها، وتألقت المطربة الرقيقة في غنائها بحسها المرهف، ونالت نجاحاً كبيراً في عام 1963.وبعد سنوات طلب عبدالوهاب من صديقه الشاعر حسين السيد أن يكتب أغنية على غرار «ساكن قصادي» فكتب «فاتت جنبنا» التي غناها عبدالحليم حافظ، ويقول موسيقار الأجيال: «وضعنا الخطوط العريضة لأغنية (فاتت جنبنا) من ثلاثة فصول، الأول، شخصان يقفان وتمر بجوارهما فتاة جميلة تلفت نظرهما، والثاني، يقع أحدهما في حبها، والثالث، عندما يرسل إليها خطاباً يشرح لها فيه عاطفته تجاهها، لذلك اعتبرها و(ساكن قصادي) أغنيتين فريدتين، رغم تعرض السيد للنقد من قبل أحد الصحافيين الكبار وقتها، وعقب مرور عام على الأغنية أثنى عليه”.شاعر الحب
كتبت نجاة قصة نجاح مع شاعر آخر وموسيقى عبدالوهاب، حين أهدى إليها نزار قباني قصيدته «أيظن»، وفي أحد أحاديثها الصحافية، وصفت المطربة الرقيقة مشاعرها بقصيدة نزار وقالت: «وصلتني القصيدة في البريد، وأحسست بعد قراءة هذا الشعر، أن هناك كنزاً بين كلمات هذه القصيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، لكنني حقيقة لم أتلق القصيدة بارتياحٍ كبير، لأن مفرداتها صعبة، ولم يسبق لي أن غنيت بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقار كمال الطويل أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغرباً: إيه ده!... وكذلك الملحن محمد الموجي، وقررت أن أرسل القصيدة للنشر في إحدى الصحف المصرية، تكريماً لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها».وتابعت نجاة: «بعد نشرها فوجئت بالفنان محمد عبدالوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة، ويسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسار ما إذا كانت القصيدة قد مرت عليّ أو قرأتها، وسردت له ما جرى، فطلب مني أن أراه كي أستـمع إلى لحن الأغنية، كانت حينئذ الساعة الحادية عشرة صباحاً، وأكد عليّ أن ألتقيه بعد ساعتين، وفعلاً، حينما ذهبت إليه كان اللحن جاهزاً، وغنيت (أيظن) لشاعر الحب نزار قباني، وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وخرجت الأغنية لتحقق حضوراً ساحراً”. ولم يكتمل فرح نجاة بنجاح «أيظن» التي أهداها لها قباني ولحنها عبدالوهاب، وقام الأخير بتسجيل الأغنية بصوته، وحدثت مشكلة بينهما، لم يحسمها إلا نزار نفسه الذي قال: «إن الأغنية مهداة لنجاة وليس من حق عبدالوهاب أن يسند كلماتها لنفسه أو لأي مطربة أخرى غيرها”.بيت الطاعة
وروت نجاة كواليس أغنية «أيظن» التي تلقت بسببها رسالة عتاب من الشاعر نزار قباني، والمفاجأة أن مؤلف الأغنية لم يسمع قصيدته المغناة، إذ كان يعمل وقتها دبلوماسياً في بكين، وذلك في مطلع ستينيات القرن الماضي، فما كان منه إلا أن بعث رسالة إلى نجاة تضمنت عتاباً لعدم حصوله على نسخة من الأغنية.وكان نص الرسالة: «أيتها الصديقة الغالية... لا أزال في آخر الدنيا... أنتظر الشريط الذي يحمل أغنيتنا (أيظن) تعيش في الصحف... في السهرات وعلى شفاه الأدباء، وفي كل زاوية في الأرض العربية... وأبقى أنا محروماً من الأحرف التي أكلت أعصابي... يا لكِ من أم قاسية يا نجاة... أريتِ المولود الجميل لكل إنسان، وتغنيت بجماله في كل مكان... وتركتِ أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفلٍ أزرق العينين يعيش مع أمه في القاهرة... لا تضحكي يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتي، فأنا لا يمكن أن أقنع بتلقّي رسائل التهنئة بالمولود من دون أن أراه... فانهضي حالاً لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريد صغير... هنا كنتِ أماً عن حقٍ وحقيق، أما إذا تمردتِ فسأطلبك إلى بيت الطاعة رغم معرفتي بأنكِ تكرهينه”.أسهمت في إنقاذ آثار النوبة وتبرعت بأجرها لـ«المجهود الحربي»
نشرت جريدة «الجمهورية» في عددها الصادر يوم 4 نوفمبر 1963 خبراً قصيراً، عن قبول المطربة نجاة التنازل عن جزء من أجرها (25 جنيهاً) لمصلحة إنقاذ آثار النوبة، في الحفل الذي أقيم في الشهر ذاته برعاية الجمعية الأهلية للفنون الجميلة، وقام الفنان أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الماسية بالاتصال بالفنانين المشاركين، ووافقوا على التبرع بجزء من أجورهم، ومنهم شريفة فاضل وعبداللطيف التلباني.وبعد سنوات انضمت نجاة إلى قافلة الفنانين الذين تبرعوا بأجورهم من أجل المجهود الحربي، عقب حرب 1967، وظهر حسها الوطني في إحياء بعض الحفلات خلال ذلك العام، وقدمت العديد من الأغاني الوطنية، منها «والله وعرفنا الحب» للشاعر حسين السيد، وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، وأرجأت مشروعاتها الفنية الأخرى، وسجلت للإذاعة الأغنية الوطنية «جاي يا فلسطين» للشاعر مأمون الشناوي، وألحان بليغ حمدي.مقطع من أغنية «أيظن»
أيظن أني لعبة بيديهأنا لا أفكر في الرجوع ٳليهاليوم عاد كأن شيئاً لم يكنوبراءة الأطفال في عينيهليقول لي ٳني رفيقة دربهوبأنني الحب الوحيد لديهالبقية في الحلقة المقبلة