تصر الولايات المتحدة دائماً على تنفيذ سياستها من دون تغيير في أميركا اللاتينية، وفي عام 1954، على سبيل المثال، أيدت وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إيه) ووزارة الخارجية الأميركية الانقلاب على رئيس غواتيمالا جاكوبو آربنز كما حث السفير الأميركي لدى غواتيمالا قادة الجيش في ذلك البلد على اجتناب غزو أميركي عبر استعادة ما وصفه بنشر "الديمقراطية" هناك، وقد تحقق ذلك بعد وقت قصير وتمت إطاحة آربنز وتنصيب رئيس جديد للبلاد. ولجأت الولايات المتحدة الى السياسة ذاتها في فنزويلا منذ مطلع عام 2019 ولكن بصورة مرحلية ومجزأة لم تحقق سوى القليل من النجاح، وألقت إدارة الرئيس دونالد ترامب بثقلها وراء الجهود التي هدفت الى تفكيك القوات المسلحة في فنزويلا وفرضت عقوبات اقتصادية مروعة على ذلك البلد ودفعت كراكاس الى خندق العجز الخانق، وفي شهر يناير من عام 2019 دعا مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو الى العيش في "أحد الشواطئ الجميلة بعيداً عن فنزويلا" وبعد شهرين قال الرئيس ترامب إن كبار المسؤولين الأميركيين يطالبونه "بالتوجه الى حرب" لإطاحة رجل فنزويلا القوي، ولكن مادورو تشبث بالسلطة واستمر في الحكم على الرغم من العقوبات الاقتصادية الحادة والمقاطعة الدبلوماسية من جانب عدد من الدول والتهديد بغزو عسكري لبلاده.
وسط وباء كورونا
والآن، وفي خضم انتشار وباء كورونا في مختلف أنحاء العالم تغيرت الأوضاع بالنسبة الى الرئيس مادورو والمعارضة الفنزويلية الساعية الى إطاحته، وعلى الرغم من حدوث عدد قليل نسبياً من الإصابات بالوباء في فنزويلا غير أن تداعياته أفضت إلى تأثيرات شديدة على اقتصاد تلك الدولة كما أسفر هبوط أسعار السلع عن عجز حكومة مادورو عن الاستفادة من مبيعات النفط الفنزويلي التي كانت تشكل المصدر الرئيس للدخل في البلاد- وفي غضون ذلك، أسفر تعطل مصافي النفط والعقوبات الاقتصادية الأميركية عن حدوث نقص في كميات الغذاء والوقود على الرغم من وجود أكبر احتياطي للنفط في العالم في ذلك البلد.وقد حاولت الولايات المتحدة والمعارضة الفنزويلية استغلال فرصة ضعف موقف الرئيس مادورو، وفي السادس والعشرين من شهر مارس الماضي وجهت إدارة الرئيس ترامب عدة اتهامات إلى مادورو وأعضاء في حكومته بالمتاجرة بالمخدرات، وأعقبت ذلك بعمليات بحرية في الكاريبي اعتبرتها الجماعات المؤيدة لحكومة كراكاس مقدمة لحصار أو غزو لفنزويلا، وكما كان متوقعاً فقد صور الرئيس مادورو وأعضاء حكومته على شكل ضحايا لمؤامرة إمبريالية واتهموا الإدارة الأميركية والعقوبات الاقتصادية بحرمان فنزويلا من القدرة على مواجهة وباء كورونا إضافة إلى إضعاف النظام الصحي فيها.خطر الانفجار الشعبي
واليوم لا يتوقف مصير فنزويلا على مادورو أو ترامب، بل على استياء المواطنين الذي يفتقرون الى الدواء والغذاء والوقود، وعلى الرغم من حظر التجول الشامل في ذلك البلد فقد واجه مادورو 500 مسيرة احتجاج في شهر أبريل الماضي، وطلبت حكومة كراكاس من الصين وإيران وروسيا تزويدها بالوقود والمعدات الطبية اللازمة لمحاربة وباء كورونا، كما أن حلفاء الرئيس مادورو شرعوا بإجراء محادثات مع المعارضة حول سبل خفض تأثيرات الوباء على فنزويلا، ولكن مادورو الذي اشتهر بصموده قد يرفض مثل تلك المحاولات.ويقال إن فنزويلا في حال تجدد الصراع بين الحكومة والمعارضة يمكن أن تقع ضحية لمزيد من الفوضى والنزاع الداخلي.التفكير الرغبي
ستة عقود من الزمن تمثل الفارق بين الانقلاب في غواتيمالا وبين الحملة الدولية الرامية الى تغيير النظام في فنزويلا، وخلال تلك الفترة شهد معظم دول أميركا اللاتينية انتقالاً الى الديمقراطية، كما أن الدعوة الى القيام بعمل عسكري في ذلك الجزء من العالم تقلصت، ولكن الولايات المتحدة تشددت في عام 2015 في موقفها من الرئيس مادورو، وأعلنت أن فنزويلا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، ثم جمدت موجودات كبار المسؤولين في حكومة مادورو، وكان هذا الأسلوب قد بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما لكنه ازداد حدة في عهد الرئيس ترامب.وبلغت الأزمة ذروتها خلال الأشهر الأولى من عام 2019، وفي شهر يناير أعلن خوان غوايدو وهو زعيم المعارضة ورئيس الجمعية الوطنية في فنزويلا "رئاسته المؤقتة" في ذلك البلد أمام حشد من مؤيديه في العاصمة كراكاس، وقد اعترفت إدارة ترامب برئاسة غوايدو على الفور، وتعهدت بتقديم "الثقل الكامل الاقتصادي والدبلوماسي الأميركي من أجل استعادة الديمقراطية في فنزويلا"، وبعد أيام قليلة فقط تنبأ رئيس كولومبيا إيفان دوكيو بأن أمام الرئيس مادورو "مجرد ساعات قليلة فقط " قبل أن تتم إطاحته.ولكن في حقيقة الأمر لم يكن غوايدو يتمتع بقوة حقيقية تمكنه من التشبث برئاسته في فنزويلا، وقد اعتمد على حسن نية المجتمع الدولي التي تبين أنها مجرد كلام فقط، كما أن عجز إدارة ترامب عن إطاحة مادورو يظهر ضعف واشنطن في المنطقة.توقعات إطاحة مادورو
توجد روايتان مختلفتان حول صمود أو إطاحة الرئيس مادورو، وتشدد دوائر المعارضة هناك على أن قسوة الإجراءات الحكومية والفساد المتجذر في البلاد وقدرة السلطة على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية الخانقة التي فرضتها إدارة ترامب على تصدير النفط الفنزويلي إضافة إلى وجود مناجم الذهب وتهريب المخدرات يضمن لحكومة كراكاس ولاء قادة الجيش ورجال السياسة على حد سواء.وتقول الرواية الثانية إن شخصيات المعارضة المتشددة ترى أن التهديد الذي يستهدف نظام مادورو لم يبلغ حتى الآن درجة كافية من أجل إثارة مخاوف أنصاره والمتعاطفين معه، وقد أصر أحد رجال المعارضة في معسكر غوايدو على ضرورة فرض مزيد من العقوبات على فنزويلا بحيث "تولد درجة عالية من اليأس والهلع تفضي الى إطاحة الحكومة أو الى جعل البلاد عصية على الحكم".وفي غضون ذلك، يعرب آخرون عن قناعتهم في أن الغزو العسكري الأميركي يمكنه فقط أن يطيح رجل فنزويلا القوي، ويشير المتعاطفون مع الحكومة أو الذين ينظرون بجدية أكبر الى اشتراكية مادورو البوليفارية واعتبارها قوة سياسية فاعلة الى النطاق الواسع للولاء والتضامن الأيديولوجي، وهو ما يفسر في رأيهم السبب وراء صمود النظام في وجه عواصف الدمار، وقال لي أحد كبار رجال السياسة إن الحركة البوليفارية على الرغم من هبوطها الى حد كبير تحظى بدعم 25 في المئة من السكان.وفي هذا المنظور فإن معاملة الرئيس مادورو ورفاقه على شكل مجرمين تفضي الى نتائج عكسية، وفي رأي أحد خبراء السياسة في ذلك الجزء من العالم فإن "من الطبيعي وجود أشخاص فاسدين ولصوص في دوائر الحكومة، ولكن الضغط لا يولد انشقاقاً بين القادة بل المزيد من التماسك والتلاحم".وبحسب هذه الرواية فشلت المعارضة في الخروج من قلاع الطبقة المتوسطة، ومن جديد وسواء في الانقلاب على الرئيس السابق هيغو تشافيز في عام 2002 والمسيرات الشعبية ضد مادورو في 2014 أو عرض رئاسة مادورو على استفتاء عام في 2016 افترضت المعارضة الرئيسة أن الثورة يمكن أن تطيح الرئيس الفنزويلي، وكانت دائماً على خطأ.وفي حقيقة الأمر يوجد قدر من الحقيقة في الروايتين، وفي حين كان رئيس غواتيمالا آربنز يعلم أن حوالي نصف قواته سيتبادل المواقف في حال حدوث غزو أميركي كان مادورو واثقاً من استمرار ولاء كبار ضباط الجيش لحكومته لأن لديهم مصلحة مادية في حكومته، وكشف أحد التقارير أخيراً عن وثائق توضح أن حوالي ثلث عدد الجنرالات يملكون شركات خاصة بهم كما أن الكثير منهم يشغلون أعلى المناصب الحكومية، وهو ما يفسر سبب فشل آخر 6 محاولات للانقلاب على النظام.وثمة حقيقة برزت بعد انتشار وباء كورونا، وهي أن ذلك الوباء يشكل تهديداً أكبر للحكم في فنزويلا من المحاولات الانقلابية، ويوافق الخبراء على أن التردي الذي أصاب العلاقات المدنية– العسكرية في فنزويلا لم ينجم عن مسيرات احتجاج شعبية بل عن انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من خمسين ساعة، والتعتيم الذي أعقب ذلك والذي أسفر عن عمليات نهب واسعة، ولعل أكثر ما تخشاه حكومة كراكاس هو القلاقل والغليان في أوساط الشعب، وهي ظاهرة يرفضها الجنرالات تماماً.باختصار، جعل انتشار وباء كورونا الأوضاع في فنزويلا أكثر سوءاً الى حد كبير، وقد أعرب حوالي 79 في المئة من السكان عن عدم رضاهم عن خطوات الحكومة إزاء الوضع الداخلي، وذلك في استطلاع جرى في شهر مارس الماضي من قبل "داتاناليسز" وهي واحدة من أبرز وكالات استطلاع الرأي في فنزويلا.* إيفان بريسكو