يوم أصابها الطاعون... انتشلها البحارة من الفناء
من وحي العيش تحت رحمة فيروس كورونا وإلزامية الحظر وجدت نفسي في رحلة شبيهة أخذنا إليها أهم من كَتب ووثق لتاريخ الوضع الصحي في الكويت، وهو الصديق والباحث خالد فهد الجارالله. من يطالع هذا الكتاب ويعقد مقارنة بين وضعنا في عام 2020 مع الوباء العالمي والوضع الذي كان سائداً في الكويت منذ عام 1773 تاريخ أول وباء للطاعون سيقدر حجم معاناة أهل ذاك الزمن والمصاعب التي تحملوها، والأرواح التي ذهبت بهذا المرض وغيره! هناك جملة إشارات ورسائل يمكن التوقف عندها:
أولاً: أن معظم الأوبئة قدمت إلى الكويت من الخارج، (طاعون 1773) جاء من البصرة، و(طاعون 1881) وصل من "تبريز" بإيران، (كوليرا 1865) قدمت من الهند، (كوليرا 1871) جاءت من النجف، (جدري 1932) وصلت من إيران. ثانياً: أن إنفلونزا 1918، كان وباء اجتاح العالم كله وقضى على 25 مليون إنسان، ودخل معظم البيوت في الكويت. ثالثاً: أن المرضين اللذين استوطنا الكويت هما السل والجدري، أما الملاريا فلم تكن معروفة وخلت منه البلاد نظراً لعدم وجود مستنقعات ومياه راكدة، في حين كان مرض السل منتشراً بشكل مريع خصوصا بين البدو الرحل. ما استوقفني حقيقة ما حدث أثناء (طاعون 1831) وكان من أفظع ما عرفه الكويتيون والعراقيون والنجديون بخلاف طاعون 1773 والذي وفد إلى البلاد من البصرة بعد أن أهلك أهلها، وسنة الجدري عام 1932، وقضى على 3 آلاف نسمة أغلبهم من الأطفال، بعدما اجتاح الوباء المدينة وعبر أسوارها وأصاب سكان البادية ولم يترك المرض بيتاً إلا دخله! هالني الوصف الذي قرأته وأنقله بأمانة، من باب المعرفة وتقدير حجم الأهوال التي أصابت العباد! وعندما نسترجع المشهد، لا بد أن نستشعر الخطر الحقيقي من وراء كارثة الأوبئة، ويهون علينا ما نحن فيه الآن بعدما استنفر العالم كله بعمل اللقاحات والتجارب السريرية لعلاج فيروس كورونا المستجد "كوفيد– 19". ينقل المؤرخ عثمان بن بشر النجدي "في هذه السنة وقع الطاعون العظيم الذي عم العراق والسواد والمجرة وسوق الشيوخ والبصرة والزبير والكويت وما حولها، وليس مثل هذا الوباء الذي قبله، بل هذا هو الطاعون المعتاد ونعوذ بالله من غضبه وعقابه، وحل بهم الوباء العظيم الذي انقطع منه قبائل وحمائل، وخلت من أهلها المنازل".ثم يقدم وصفاً مرعباً للحالة التي عاشتها تلك المجتمعات "وإذا دخل في بيت لم يخرج وفيه عين تطرف وجثا الناس في بيوتهم لا يجدون من يدفنهم، وأموالهم عندهم ليس لها وال، وأنتنت البلدان من جيف الإنسان وبقيت الدواب والأنعام سائبة في البلدان ليس عندها من يسقيها أو يعلفها حتى مات أكثرها ومات بعض الأطفال عطشاً وجوعاً". أما مقدار فداحة الكارثة في الكويت فنجدها في كتاب الشيخ عبدالعزيز الرشيد، "أصيبت الكويت عام 1831 بطاعون عظيم قضى على الكثير من أهلها حتى كادت تصبح منه قفراً يباباً لولا المسافرون من أهلها الذين لم يرجعوا إليها إلا بعد صفاء جوها من تلك الظلمة، رجعوا إليها ولكن وجدوا الطاعون قد فتك بكثير من نسائهم فاضطروا إلى استقدام عوضهن من البلاد المجاورة كالزبير ونجد وغيرها وبذلك حفظوا البلد من العدم والفناء". هذا الطاعون أفنى أكثر من ثلاثة أرباع أهل الكويت، فكانت الجثث تحمل إلى المقابر أول الأمر ولما استفحل الوباء واشتد وكثر الموتى تركت الجثث في البيوت، إذ ليس هناك من يحملها إلى المقابر. وتنقل الروايات أن أحد مشايخ الدين أشار في شدة الوباء على الكويتيين أن يغادروا المباني والبيوت فتركوها وابتنوا لهم أكواخاً في "الشويخ" وكان القادم إليهم يسمع التهليل والحوقلة قبل وصوله إليهم بمسافة بعيدة. هذا الطاعون حدث في فصل الشتاء، وكانت السفن التجارية والغوص في البحر وعلى طريق الهند، وتحمل عدداً لا بأس به من الرجال، هؤلاء نجوا من الموت، إذ حصل أثناء غيابهم فكانوا الأساس الثاني الذي انتشل الكويت من الفناء المحتم والانقراض التام.ربما كانت الرسائل العشرة لـ"خاتون مريم" من الكتب الممتعة بالقراءة عن "سنة الجدري" وماري فان بيليت، المشهورة باسم "خاتون مريم" ممرضة أميركية عملت في الكويت لمدة عشرين عاماً (1920– 1939) تلك بعض الرسائل التي كتبتها وسجلت فيها انطباعاتها وعمل مركز البحوث والدراسات الكويتية على نشر تلك الرسائل وهي من إعداد د. خالد فهد الجارالله، والتي توثق الأوضاع الصحية وأحوال المجتمع وتشير إلى أنه في عام 1933 مات 3 آلاف مواطن بسبب مرض الجدري. وفي هذا السياق نشير إلى أن فقدان البنسلين على سبيل المثال أودى بحياة مقاتلي الجهراء عام 1920 ولم يكن في حينه غير المستشفى الأميركاني، وإن كان المستوصف البريطاني الذي أنشئ عام 1904 وهو أول مستوصف بتاريخ الكويت قد جنب البلاد الأمراض والأوبئة. لا يخفى على القارئ الكريم أن فترة سنة 1831 هي بالتأكيد تختلف عن سنة 2020، فهناك تغيير جذري وكامل من حيث مستوى المعيشة ومن حيث الخدمات الصحية والتقدم العمراني ووسائل المواصلات والاتصالات، لكننا نشير إلى طاعون 1831 من زاوية أخذ العبرة والوقوف على حقيقة ما جرى.