كيف يصمد فلاديمير بوتين حتى الآن؟
اليوم يبدو أنه لا أفق سياسيا منظورا لنظام بوتين، فهل يمكن ردعه بأي طريقة؟ وهل ستكون أزمة فيروس كورونا والمشاكل الاقتصادية المترتبة عليها في روسيا كفيلة بتغيير الوجهة السياسية التي يتبناها الروس؟
يتساءل الكثيرون عن العوامل اللازمة لظهور قيادة جديدة في روسيا، فقد وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة منذ 20 سنة واقترح حديثاً تعديلات على الدستور الروسي بما يضمن بقاءه في السلطة لسنوات إضافية، وهو يحصد دوماً نِسَب تأييد عالية يحسده عليها معظم قادة العالم على الأرجح، سبق أن وصل إلى حافة الانهيار في مناسبات متكررة، لكن لطالما نجح في تجاوز جميع التحديات، واليوم لا أفق سياسيا منظورا لنظام بوتين على ما يبدو، فهل يمكن ردعه بأي طريقة؟ وهل ستكون أزمة فيروس كورونا والمشاكل الاقتصادية المترتبة عليها في روسيا كفيلة بتغيير الوجهة السياسية التي يتبناها الروس؟ لنلقِ أولاً نظرة على تاريخ التغيير السياسي في روسيا لاستخلاص الدروس وتوقع مسار المرحلة المقبلة.
تاريخ التغيير السياسي في روسيا
يعرف الكثيرون قصة انهيار سلالة رومانوف الشهيرة، إذ قُتِل نيقولا الثاني وعائلته في يوليو 1918، بعد أكثر من سنة على تنازل القيصر الأخير عن العرش، حيث واجه نيقولا الثاني، قبل تنحيه في مارس 1917، عدداً من الأزمات في روسيا، كان هذا الحاكم يفتقر إلى الشعبية، فقد كرهه الناس لأنه أطلق حرباً كارثية في اليابان وكان أداؤه كارثياً بالقدر نفسه حين قاد الجيش الروسي خلال الحرب العالمية الأولى، وتزامن عهده مع اضطرابات اقتصادية حادة ومطولة، هو أشعل فتيل الثورة قبل سنوات، في عام 1905، حين تعرّض مئات العمال لإطلاق النار على يد حرسه وأمام قصره، مع أنهم كانوا يحتجون سلمياً، ومع ذلك نجح في التمسك بمقاليد السلطة.على صعيد آخر، اغتيل جدّه ألكسندر الثاني على يد متمردين كانوا يظنون أن الشعب سينتفض تلقائياً عند مقتل القيصر وأن الحكم الاستبدادي سينتهي أخيراً في روسيا، لكن لم يحصل ذلك، فقد صمدت السلالة الحاكمة طوال 36 سنة بعد مقتل ألكسندر الثاني، واستمرت سنوات عدة على مر عهد نيقولا الثاني رغم المصاعب الكبرى التي شهدتها تلك الحقبة. ما الذي أدى أخيراً إلى إنهاء حكم رومانوف إذاً؟ لم يدرك نيقولا الثاني أنه لم يعد يحظى بحماية أوساطه الداخلية إلا عندما انضمت القيادة العليا للجيش الروسي إلى العمال المضربين، فقد حارب سنوات طويلة السخط الشعبي العارم الذي طالب بإقالته، لكنه فهم أنه مضطر للتنحي حين خسر أخيراً دعم حرسه العسكري النخبوي.هكذا بدأت حقبة جديدة في روسيا: انطلق عصر الاشتراكية ونشأ الاتحاد السوفياتي وكان انهياره لاحقاً مفاجئاً وعظيماً، لا يتفق المؤرخون حتى الآن حول سبب انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يظن الكثيرون أن الركود الاقتصادي دفع الشعب إلى الانتفاض والمطالبة بالحريات الديمقراطية وبأنظمة اقتصادية مستوحاة من النماذج الغربية، لكن واجه الروس مصاعب اقتصادية مطولة وحالات ظلم هائلة على مر تاريخهم، وكان السوفيات معتادين على المعاناة الاقتصادية بقدر الروس في عهد رومانوف. صحيح أن الوضع الاقتصادي كان سيئاً في الاتحاد السوفياتي، لكن لا يمكن اعتباره كارثياً، لذا لم يكن هذا العامل السبب الوحيد لتفكك الاتحاد السوفياتي. يطرح مؤرخون آخرون، أبرزهم ديفيد كوتز، نظرية أكثر منطقية مفادها أن الاتحاد السوفياتي لم يسقط إلا عندما قررت النخب في الحزب الشيوعي تحسين وضعها المادي والمالي وتبني النموذج الاقتصادي الغربي المبني على السوق الحر. حتى صحيفة «نيويورك تايمز»، حين كتبت عن الانهيار السوفياتي، اعتبرت أن «محاولات غورباتشوف لإصلاح الاقتصاد انهارت مثل جميع الإصلاحات السابقة بسبب الجهاز الإداري النافذ والراسخ في الحزب الشيوعي».
أزمة فيروس كورونا
لنتقدم بالزمن الآن ونحلل الوضع الراهن! بعد مرور 30 سنة تقريباً، أطلق فيروس كورونا العالمي أزمة اقتصادية أخرى في روسيا، لكن حتى هذه الأزمة ليست كافية لإثارة قلق بوتين، فكَثُر الحديث في الفترة الأخيرة عن غياب خطط الإنقاذ المالي في روسيا، كتلك التي أقرّتها الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية، لكنّ بوتين لن يأخذ عناء التفكير بأي حوافز اقتصادية في الوقت الراهن، فهو يعرف أنه يستطيع الحفاظ على منصبه من دون مشكلة، مهما زادت المعاناة الاقتصادية في حياة المواطن الروسي العادي، ولا داعي كي يقلق بوتين إذاً قبل أن تطاول الأزمة أوساطه الداخلية، أي الأوليغارشيين الروس في هذه الحالة.تبدو علاقة بوتين بالأوليغارشيين الروس وثيقة ومثالية، فهم لا يستطيعون الصمود من دونه، وهو لن يصمد من دونهم، فقد اغتنى الأوليغارشيون في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهم لا يزالون أثرياء في عهد بوتين بفضل نظام من الرشا والامتيازات الحكومية التي تعطيهم أكبر حصة من الاقتصاد الروسي. هم يستطيعون الوصول إلى الموارد والائتمانات المالية والمناقصات الحكومية التي تعجز الشركات الروسية العادية عن الاستفادة منها، كذلك، تسمح الحماية التي توفرها الحكومة الروسية للأوليغارشيين الفاسدين والمخادعين بعقد الصفقات في روسيا من دون حسيب أو رقيب، لا يمكن أن تصمد شركاتهم إذا خضعت للتدقيق الصارم الذي يفرضه اقتصاد السوق الحر، هم يتكلون على بوتين وإدارته ولن يتخذوا أي قرارات تُضعِف النظام الحاكم في روسيا.يحمي الأوليغارشيون بوتين مقابل حمايته لهم، فمن المعروف أن المرشحين السياسيين يتكلون على الدعم المالي الذي يقدّمه أغنى الأغنياء للوصول إلى السلطة والصمود فيها، ففي الغرب، يتبرع أصحاب المليارات بأموال طائلة للمرشحين ويدفعون مبالغ كبرى لتمويل الحملات الدعائية دعماً لمرشحهم، في روسيا، تحصل عملية معاكسة، يعني رفضهم الدائم دعم مرشّحي المعارضة أو أي شخص يهاجم بوتين أن المعارضة لن تنافس بوتين يوماً بطريقة متكافئة، تحتاج المعارضة في روسيا إلى الموارد: إذا قرر أوليغارشي روسي واحد أن يقدم دعمه لأحد قادة المعارضة، فستتغير اللعبة السياسية القائمة في روسيا حتماً (شرط أن يحتفظ ذلك الأوليغارشي بأملاكه وألا يدخل السجن أو يتم نفيه).أثر الفيروس اقتصاديا
يبدو أن أي تغيير محتمل في القيادة الروسية يتوقف إذاً على النخبة الحاكمة، هكذا كان الوضع على مر تاريخ روسيا الطويل، لكن على غرار معظم البلدان الأخرى، لا تستهدف التداعيات الاقتصادية المترتبة على فيروس كورونا في روسيا النخب الحاكمة مباشرةً حتى الآن، بل ينعكس هذا الوضع، مثل معظم الأزمات الاقتصادية الأخرى، على الطبقة الوسطى والشركات الصغيرة والطبقة العاملة. لهذا السبب، لم يمرر بوتين أي مشروع قانون مرتبط بالحوافز الاقتصادية لمساعدة مواطنيه، ولهذا السبب أيضاً قرر الاختفاء اليوم وترك أصعب المهام على عاتق حكومته، لكن إذا بدأ الوباء يؤثر في جيوب النخبة الروسية الحاكمة، فلا مفر من أن يشعر بوتين بالقلق على منصبه، قد يفكر حينها باتخاذ قرارات أخرى لتوزيع الثروات.● فيتالي شكلياروف
بوتين لم يمرر أي مشروع قانون مرتبط بالحوافز الاقتصادية لمساعدة مواطنيه ولهذا السبب قرر ترك أصعب المهام على عاتق حكومته
بوتين لن يفكر في أي حوافز اقتصادية في الوقت الراهن لأنه يعرف أنه يستطيع الحفاظ على منصبه
بوتين لن يفكر في أي حوافز اقتصادية في الوقت الراهن لأنه يعرف أنه يستطيع الحفاظ على منصبه