الاحتفال باستكشاف الغاز في إسرائيل انتهى قبل أن يبدأ!
على المدى الطويل، يبدو أن أوروبا وبقية دول العالم محكومة بالانتقال إلى مصادر الطاقة البديلة والاستغناء عن الوقود الأحفوري، حيث بدأت المساعي أصلاً للاستغناء عن الفحم وتبدو آفاق قطاع النفط قاتمة، فقد يصمد الغاز فترة أطول بقليل لأنه أنظف من المواد الأخرى، لكنّ هذه التوقعات المستقبلية لا تكفي لحث شركات الطاقة على إنفاق المليارات على عمليات الاستكشاف والتطوير!
منذ أقل من 18 شهراً، بدا وكأن بلدان شرق المتوسط تتجه إلى مضاهاة إمبراطورية النفط في الخليج العربي بفضل موارد الغاز الطبيعي المحلية، قد تكون هذه الفكرة مبالغاً فيها، لكن برزت مؤشرات واضحة مفادها أن بلدان المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، أصبحت مستعدة للتعاون وتحويل المنطقة إلى مركز عالمي لمصادر الطاقة.بدأت مصر عمليات الإنتاج في حقل "ظهر" العملاق وكان حقل "ليفياثان" الإسرائيلي والأصغر حجماً يستعد لبدء الضخ أيضاً، كانت عمليات الاستكشاف قيد التنفيذ في المياه القبرصية وأصبحت خطط شحن الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى مصر، قبل إعادة تصديره إلى أوروبا، على قدم وساق، حتى أن جهوداً جدّية أخرى انطلقت لبناء خط أنابيب من مصر إلى أوروبا.وفي موقف غير مسبوق، وضعت ستة بلدان (قبرص، اليونان، إسرائيل، إيطاليا، الأردن، السلطة الفلسطينية) خلافاتها السياسية جانباً وشكّلت "منتدى غاز شرق المتوسط" لتنظيم مركز ناشئ، رفضت تركيا الانضمام إلى المشروع، فطرحت مزاعم سخيفة عن حقوقها بالاستكشاف وضايقت جهود الحفر القبرصية.
بعد مرور 18 شهراً، وحدها العقلية التركية المتعنّتة لم تتغير: على خلاف كل منطق اقتصادي، تتابع تركيا الحفر في مياه تطالب بها قبرص، لكن من المتوقع أن توقف شركات الغاز مشاريعها في كل مكان آخر من بلدان شرق المتوسط لأن أسعار الغاز العالمية انهارت تزامناً مع هبوط مريع في أسعار النفط.وفق مركز "تي.تي.إف" الهولندي، وهو معيار أوروبي مُعتمَد، بلغت قيمة تسليم الغاز الطبيعي لشهر يونيو في الأسبوع الماضي 3.50 يورو مقابل كل ميغاواط في الساعة، وهو أدنى مستوى منذ عام 2005، ويشعر الكثيرون في هذا القطاع بالقلق من أن يُباع الغاز الأوروبي قريباً تحت مستوى الصفر، كما حصل مع النفط في الولايات المتحدة خلال الشهر الماضي.يُعتبر فيروس كورونا المستجد جزءاً بسيطاً من المشكلة القائمة، فقبل أشهر من الفوضى التي نشرها الوباء في اقتصادات العالم وإمعانه في تخفيض الطلب على مصادر الطاقة، بدأت الأسعار تتراجع بقوة لأن إمدادات الغاز أغرقت الأسواق بكل بساطة.لم تُستكشَف احتياطيات جديدة في بلدان شرق المتوسط وحدها، بل بدأ إنتاج كميات متزايدة من الغاز في كل مكان، لا سيما في الولايات المتحدة: إنه أثر جانبي لوفرة النفط الصخري هناك، فقد زادت إمدادات الغاز بدرجة مفرطة، ثم ظهر فيروس كورونا وقضى على الطلب نهائياً.في أوروبا، تقبع الناقلات التي تحمل الغاز الطبيعي المُسال مقابل الساحل الأوروبي، وتوشك صهاريج التخزين على الامتلاء بالكامل، لكنّ كبار المنتجين، على غرار قطر، يتابعون ضخ كميات جديدة لأنهم يجدون صعوبة في وقف الإنتاج، لكن بحلول شهر يوليو المقبل، قد لا يجد المنتجون مساحة كافية لتخزين فائض الغاز. السوق المستهدف تبخّر!يطرح هذا الوضع مشكلة خطيرة على بلدان شرق المتوسط، وحتى أكبر الأسواق المحلية في المنطقة، أي مصر وإسرائيل، تعجز عن استيعاب جميع كميات الغاز المتاحة أو المرتقبة، ويُفترض أن تكون أوروبا أكبر سوق للغاز الذي تصدّره بلدان شرق المتوسط، لكنّ وضع العالم تبدّل.توقفت مصر عن تصدير الغاز الطبيعي المُسال منذ مارس الماضي وجمّدت العمليات في مصنعها الوحيد، وفي قبرص أجّلت شركة ExxonMobil ومشاريع مشتركة أخرى بين ENI وTotalعمليات الحفر الاستكشافي، وقد تضطر Noble Energy ومجموعة Delek Group الإسرائيلية (شريكتان في حقل "أفروديت" في قبرص) لتأخير خطط بناء خط أنابيب يصل إلى مصر وكان يُفترض أن يُعاد إرسال الغاز منه إلى أوروبا على شكل غاز طبيعي مُسال.حتى الآن، لم تتأثر إسرائيل بوفرة الغاز لأن معظم كمياتها تُباع محلياً ويبقى السوق الداخلي منفصلاً عن نزعات السوق العالمي بموجب عقود تُحدد أسعاراً عالية. (تشتق المشاكل في Delek Group، واحدة من شريكتَين أساسيتين في حقلَي "تمار" و"ليفياثان"، من أصول النفط الأجنبية ولا ترتبط بأصول الغاز المحلية). مع ذلك أصبح سوق الغاز الإسرائيلي متخماً ويكمن مستقبله في الصادرات، لكن يبدو ذلك المستقبل قاتماً.يبقى أكبر نجاح إسرائيلي في مجال التصدير حتى اليوم متعلقاً بالاتفاق الذي وقّعه البلد في السنة الماضية لبيع الغاز إلى شركة Dolphinus المصرية، إذ تملك مصر كميات هائلة من الغاز المحلي، لذا يُفترض أن يُعاد تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا على شكل غاز طبيعي مُسال بعد معالجته في المعامل المصرية، لكنّ الأسعار انهارت اليوم، لذا لم تعد هذه الخطوة مبررة، ولن يرغب أحد في أوروبا في تلقي تلك الكميات في مطلق الأحوال، ويُفترض أن تستلم Dolphinus كميات إضافية من الغاز الإسرائيلي بدءاً من يوليو المقبل، لكن يصعب أن نتخيل السبب الذي يدفعها إلى فعل ذلك.وحتى الأردن، وهو مستورد أصغر بكثير للإمدادات الإسرائيلية، قد يعتبر الغاز الإسرائيلي مكلفاً جداً (أو ربما يكون الثمن السياسي باهظاً مع تطبيق خطة ضم الأراضي)، لذا قد يفضّل الغاز الطبيعي المُسال والأقل كلفة من قطر.لا تواجه إسرائيل مشكلة كبرى لأن السوق الأوروبي أصبح شبه جامد اليوم، بل تتعلق المشكلة الحقيقية بالعجز عن إعادة إحيائه مستقبلاً، فقد تتعافى الأسعار، لكن وقف تطور بلدان شرق المتوسط يعني عدم وجود كميات كبيرة من الغاز لبيعها إلى أوروبا خلال السنوات المقبلة.على المدى الطويل، يبدو أن أوروبا وبقية دول العالم محكومة بالانتقال إلى مصادر الطاقة البديلة والاستغناء عن الوقود الأحفوري، حيث بدأت المساعي أصلاً للاستغناء عن الفحم وتبدو آفاق قطاع النفط قاتمة، قد يصمد الغاز لفترة أطول بقليل لأنه أنظف من المواد الأخرى، لكنّ هذه التوقعات المستقبلية لا تكفي لحث شركات الطاقة على إنفاق المليارات على عمليات الاستكشاف والتطوير، ومن الواضح أن الاحتفال بإنتاج الغاز في بلدان شرق المتوسط انتهى قبل أن يبدأ!* ديفيد روزنبيرغ