رياح وأوتاد: السياسة الراشدة مع العمالة الوافدة
بينت في المقال السابق وبالإحصاءات الرسمية أن لدينا في الكويت أعداداً كبيرة من العمالة الوافدة التي تعمل في مختلف الأعمال في الحكومة والقطاع الخاص، خصوصا في الوظائف التي لا يتوافر لها أو لا يشغلها العدد الكافي من المواطنين، وليس هذا بمستغرب، حيث إن كثيراً من دول العالم، لا سيما التي حباها الله بكثير من نعمه، تجلب أعدادا من الوافدين لهذه الأعمال، ولكن المستغرب أن تتجاوز أعدادها عندنا ثلاثة أمثال المواطنين لأسباب مختلفة.لذلك فإن من المهم أن تتبنى الحكومة، ويتبنى الشعب والمجلس قواعد وسياسة اقتصادية وشرعية وقانونية للتعامل الأمثل وإصلاح هذا الخلل، خصوصاً مع تنامي ما نشاهده هذه الأيام من أطروحات إعلامية غير حصيفة تتناول هذا الموضوع.وقد تقدم بعض الإخوة النواب بقانون ملزم بتخفيض عمالة مختلف الجنسيات بنسب كبيرة، وأرى شخصيا أن مثل هذا القانون لا يمكن تطبيقه عملياً، ولكن الأفضل هو تبني قواعد وسياسات عامة تصدر بقانون وتسن الأحكام المطلوبة لتعديل التركيبة السكانية بالتدرج، مع دراسة الأسباب الفعلية في القطاعين العام والخاص التي أدت إلى تعيين الوافدين مع وضع الحلول المناسبة لهذه الأسباب، ومن هذه القواعد:
أولاً: الموازنة الدقيقة بين المصلحة العامة والحاجة، فليس من مصلحة الكويت أن يكون فيها هذه الأعداد الضخمة من الوافدين دون حاجة حقيقية لكثير منهم مما يشكل ضغطاً كبيراً على الخدمات العامة والأمن والاقتصاد، فلا يجوز مثلاً أن تتم الموافقة لأي صاحب عمل لجلب الأعداد التي يريد، ولا لأي جهة حكومية لتوظيف من تشاء، فيجب وضع سياسة دقيقة وأحكام إلزامية لمختلف الأعمال المطلوب جلبها من الخارج في القطاعين العام والخاص، بحيث تنظم هذه الأحكام الأعداد ونوع العمل ومدى الحاجة إليه ومدى توافر العنصر الكويتي لشغله.وأذكر أني سألت هيئة الاستثمار في أحد اجتماعات اللجنة المالية عن سبب عدم تعيين كويتيين في الشركات التي نملكها في أميركا وأوروبا فكان الجواب أن القوانين هناك تلزم بالتعيين من السوق المحلي، ولا تسمح بالتعيين من الخارج إلا باشتراطات صعبة جداً أهمها هو عدم توافر المواطن، فالملكية الخاصة ليست مبرراً لتعيين من تشاء. كما يجب وفقاً لهذه السياسة إعادة النظر في العقود الحكومية ووضع الاشتراطات المحددة لها ومقارنتها بالدرجات الكويتية، مع تتبع أي تعيين لا يحقق هذه الشروط، ومساءلة الوزراء عن سبب عدم الالتزام بها، لأن الحاجة للعمالة الوافدة يجب أن تكون حقيقية وليست للتنفيع أو الإضرار بالوافدين الذين يعاني كثير منهم الإجحاف في الرواتب والسكن، فيجب تحقيق التوازن بين حق البلد وحق العامل وفقاً للقاعدة الشرعية: "لا ضرر ولا ضرار". كما يجب أن تحتوي هذه السياسة على معرفة أسباب انصراف الكويتيين عن الانخراط في أعمال ووظائف معينة مثل ضعف الرواتب، أو المكانة الاجتماعية، أو التعليم والتدريب، وأن تعمل على تغييرها تدريجيا حتى يتحقق الإحلال فيها، فمن المعيب مثلاً أننا لا نزال نستورد المعلمين من الخارج بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على إنشاء التعليم في الكويت، فلماذا؟ وما الحل؟ثانياً: الشمولية القانونية للعقود، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (المائدة)، فيجب أن تشمل القوانين والقرارات الحكومية جميع عمليات جلب العمالة من حيث أعدادها وطبيعة عملها وسكنها والحاجة الفعلية لهذه الأعداد، وكذلك الإلمام بالعمل واحترام القانون والالتزام بالأمن والأمانة، خصوصا أن العمالة الوافدة مختلفة اللغة والتعليم والثقافة والحالة المادية، وقد يقع بعضهم أو بعض كفلائهم في الجريمة ومخالفة القانون والتهرب منه، وهذا يقتضي الضبط والرقابة المستمرة من قبل الجهات الحكومية المنظمة لهذه العمالة، وعدم السماح بالتجارة بالبشر أو التهرب من عناوين السكن أو كل الالتزامات بأي شكل من الأشكال، ووضع العقوبات المناسبة لكل المخالفات والجرائم المتعلقة بالعمالة، بحيث تشمل إنصاف المظلوم منهم أو التسفير وعقوبة الكفيل في حالة المخالفة.ثالثاً: يجب أن يتحمل صاحب العمل كلفة الخدمات التي تقدمها الدولة للعمالة الوافدة، مثل السكن اللائق وملحقاته والصحة وتعليم الأبناء ومختلف الرسوم وعدم إلقاء هذا العبء على الدولة، وذلك للحفاظ على حقوق الدولة، وبيان الكلفة الحقيقية للعمالة الوافدة ومشاركتها في عبء قيمة خدمات الدولة.رابعاً: لا للتعميم، فعندما يقع وافد أو مجموعة من الوافدين في خطأ معين أو يرتكبون جريمة معينة لا يجوز تعميم هذا الخطأ على جميع من يحملون جنسية هذا الوافد، لأن الله تعالى قال: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وقد جاء في المادة 33 من الدستور أن "العقوبة شخصية"، وذكرت المذكرة التفسيرية أن هذه المادة تطبيق لهذه الآية الكريمة.خامساً: الخطأ لا يقابل بخطأ مثله، فقد يأخذ الغضب وتأخذ الحمية بعض المتابعين لبعض السفهاء في وسائل التواصل التي تسب وتشتم الكويت، فيقابلونهم بالسب والشتم على شعب معين بأكمله وعلى جنسية محددة كلها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "إنَّ أعظمَ الناسِ عند اللهِ فِريةً لرجلٌ هاجى رجلًا فهجا القبيلةَ بأسرِها". (السلسلة الصحيحة). وعوضا عن ذلك يجب السعي إلى إيقاع العقوبة القانونية على كل من أساء إلى الكويت في الداخل أو الخارج، بدلاً من معاملته بمثل مستوى كلامه.سادساً: التعامل بأحكام الإسلام بدلاً من الكراهية البغيضة التي نراها تشتعل اليوم بين الشعوب العربية والإسلامية، فهذا يفخر بأصله، وهذا بثروة بلده، وآخر بحضارته القديمة رغم أن المسلمين الأوائل كانوا من مختلف الأصول والأعراق ومستويات الغنى والفقر، فمنهم الفارسي سلمان، والرومي صهيب، وبلال الحبشي، وعمار بن ياسر، في حين كان أبو بكر وعمر وعلي من قريش ذات المنزلة الأعلى عند العرب، وكان عثمان وعبدالرحمن بن عوف من الأغنياء، في حين كان خبيب وخباب من الفقراء، ولكنهم كانوا جميعاً متساوين وعلى قلب رجل واحد، وكانوا جميعاً من أحب الخلق الى النبي صلى الله عليه وسلم القائل "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن على الله أهون من الجعلان". (صحيح الجامع)، وفي صحيح البخاري أن خلافاً وقع، فقال رجل من الأنصار: يا للأنصار، وقال رجل من المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة".وللأسف فإن دعوى الجاهلية بالتفاخر بالآباء والأنساب وقعت الآن حتى بين أبناء البلد الواحد، وإن تطبيق هذه الأحكام الشرعية والقواعد القانونية من شأنه أن يرتقي بالأسلوب المطلوب في التعامل مع هذا الموضوع المهم، ويمهد الطريق لتعديل تدريجي مناسب للتركيبة السكانية، وانخراط المواطن الكويتي في شتى الأعمال الشريفة المنتجة مع عدم الإضرار بالوافد أو بالقطاع الخاص، والله الموفق.