أين هديلك وتغريدتها؟ *
تتسلل هي بهدوء الى مضجعك، تقف عند حافة يومك تقول هذا يوم آخر، فلماذا تتثاءبين وعيناك على تلك النافذة ومنها تطلين على المدينة، تتحسسين السرير تفتحين كل حواسك على مصراعيها، تحاولين مرارا وتكرارا قبل أن تملمي نفسك وتغادري فراشا آخر، تحاولين أن تتعرفي على الزمان والمكان، ترددين أولا بصمت ثم بصوت أعلى فأعلى وتصابين بشيء من الرعشه لأنك لا تعرفين في أي مدينة أنت وأي سرير احتضنك الليلة الماضية؟ هكذا تتنقلين منذ سنين لا تعرفين سوى غرف متشابهة رغم تنوعها ودرجاتها المختلفة من الخمسة نجوم إلى تلك التي لا تحمل إلا ظلمة عتمة الحروب والنزاعات، من رفاهية الغرف الواسعة الدافئة بالشتاء والمكيفة بالصيف، إلى تلك التي لا تعرف الدفء أبدا وحتى عندما تغتسلين فليس أمامك إلا برودة ظلمة العتمة التي انتشرت بين الدمار، تتعودين شيئا فشيئا على هذه أكثر من تلك وترددين لنفسك، لماذا أتذمر، وهم لم يعرفوا سوى صعيق الخيمة. تعودين لتتحسسي تفاصيل تلك المدينة من خلف زجاج النافذة، وفي البدء تدركين أنها ليست تلك التي في بيتكِ العتيق، حيث لكل زاوية حكاية، هناك يوقظك العصفور الساكن في الشجرة المظللة التي تحميك من قساوة شمس الصيف الحارقة، وكذلك أعين المتلصصين بحثا عن قصة تروى في مساءاتهم المملة، وهي أيضا ليست في ذاك البيت الذي حولته إلى مسكن لأن هناك لم تستطع الحمامة إلا أن تزور شباكك كل صباح، وكأنها بهديلها ترفع الغطاء عنك وتردد "صباحك ورد".
تحاولين أن تطلقي الإشارات المتلاحقة لمشهد تلك المدينة على دماغك ليعمل على فتح كل المشاهد الكثيرة المخزنة في دولاب الذكريات القريبة والبعيدة، ليطمئنك أنك لم تصلي بعد إلى مرحلة فقدان الذاكرة الكلية، كان الخوف قد تسرب لك مؤخراً، فالأسماء ترحل سريعاً، وتقفين محرجة عندما يقابلك أحدهم بكثير من الترحيب والمودة، لا "ليس بعد... ليس بعد" انتظر يا زمن بعض الشيء، فلا يزال الكثير قادماً وقد يكون هو الأجمل. ترتيب المدن ليس حسب الأهمية، ولا التسلسل التاريخي، ولا شيء إلا لأنك ما زلت غير متخيلة أنك لا تعرفين أين نمت، وفي أي زاوية من الكون صحوتِ، تتدافع الصور التي ليست بمجملها قريبة ولا بعيدة جدا، صورة القذيفة في تلك الحرب العبثية وهي تمر خلف نافذتك في ذلك الفندق العريق الذي اشتهر بكثرة الصحافيين الساكنين فيه، وعنوان مقالتك "لا عصافير تسكن هذه المدينة"، كلها رحلت حتى هي ذرفت دمعة وحملت عشها وانطلقت بحثا عن مكان لا يعرف الجنون، سماء المدينة وغيرها من تلك المدن التي كانت محط رحلاتك كلها تسكنها الشياطين، وأرضها ضاقت بالقبور المنفردة والجماعية، فلا وقت لغسل الموتى، تكفينهم ثم دفنهم، لا وقت لهم، فهناك رصاصة قناص عليهم إطلاقها في رأس بريء ينزلق بين الأزقة ليوفر بعض الماء ورغيف الخبز. مشهد تلك المدينة الصغيرة عند خاصرة إفريقيا الشرقية، وهي تتفاجأ بالعدد الهائل من الصحافيين الذين تسابقوا لإيجاد غرفة في فنادقها المعدودة، وأنت ونساء ثلاث تجرين بين النازحين من نار حرب أخرى، هي أيضا عبثية، فكل حروبنا ما هي إلا كثير من موت مجاني على الهوية! وتنتقل لتلك الساحرة سراييفو والبياض يغطيها، وهدوء مخيف وعربات تتوقف في منتصف الطريق فقد "خلص البنزين"، ألا تذكرين كيف كان ذاك الفندق الواسع خالياً إلا من غرفة أخرى لفريق إعلامي آخر.وغيرها وغيرها من بيروت إلى القاهرة إلى لندن وتونس والرباط والخرطوم وبرلين وباريس ونيويورك وجنيف، هي كثيرة ما يهمك بها الآن؟ ولماذا تسترجعينها حتى تطمئني نفسك بأنك ما زلتِ بخير، ولم تفقدي عقلك بين مدينة وأخرى؟ قالت لك تلك الزميلة منذ سنين "عندما بدأت أصحو ولا أعرف في أي مكان أنا، أدركت أنه قد حان الوقت لتترجل وكانت استقالتها قد وصلت قبل وصولها هي الى مقر عملها في مدينة أخرى وسرير ومزهرية وزنبق أو قذيفة. تغادرين الفراش وتتوقفين عند الشباك الواسع المطل على ذاك النهر وتتنفسين الصعداء "عرفتها، عرفتك أنت عاشقة أخرى" تصابين بموجة من الضحك وتجرين للاستعداد ليوم آخر، ولأيام ستأتي ومدن تباغتك في صباحات أيامك، متى تترجلين أنت أيضا كما فعلت هي؟ متى؟* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية