كيف تمكنت ألمانيا من احتواء فيروس كورونا
أبرزت الجائحة ، في كثير من المجالات، أفضل ما فينا: إحساسا جديدا بالتماسك المجتمعي، ورغبة أعظم في مساعدة الآخرين، ومرونة متجددة، وإبداعا، ولا شك أن العواقب المترتبة عليها في الأمد المتوسط ستكون قاسية، ولكن على الرغم من كل الصِـعاب والشكوك التي تنتظرنا ما زلت متفائلا.
يُـشار إلى ألمانيا غالبا على أنها مثال إيجابي لكيفية إدارة جائحة مرض فيروس كورونا 2019، فقد نجحنا في تجنب تحميل نظامنا الصحي ما لا يطيق، ومن الواضح أن منحنى العدوى بدأ يتسطح، ونسبة الحالات الحرجة والوفيات أقل في ألمانيا مقارنة بالعديد من البلدان الأخرى، لكن هذا لابد أن يحملنا على التواضع لا الإفراط في الثقة.أرى ثلاثة أسباب وراء تمكن ألمانيا من المرور بهذه الأزمة بشكل جيد نسبيا، في الوقت الحالي: أولا، كان نظام الرعاية الصحية الألماني في حالة جيدة عندما دخل معمعة الأزمة؛ وكان الجميع لديهم القدرة على الوصول بشكل كامل إلى الرعاية الطبية، والفضل في هذا لا يرجع إلى الحكومة الحالية فحسب بل أيضا إلى نظام بُـني على مدار العديد من الحكومات السابقة، وفي ظل شبكة ممتازة من الممارسين العموميين المتاحين للتعامل مع حالات «كوفيد-19» الأكثر اعتدالا، تمكنت المستشفيات من التركيز على أولئك الأشد مرضا.
ثانيا، لم تكن ألمانيا الدولة الأولى التي يجتاحها الفيروس، وبالتالي كان لديها الوقت الكافي للاستعداد، ورغم أننا كنا حريصين دوما على الإبقاء على عدد ضخم نسبيا من أَسِرة المستشفيات متاحا، وخاصة في وحدات العناية المركزة، فقد تعاملنا أيضا مع التهديد الذي فرضته جائحة «كوفيد-19» بجدية منذ البداية، وعلى هذا فقد زيدت سعة وحدات العناية المركزة في البلاد بنحو 12 ألف سرير لكي تصبح 40 ألف سرير بسرعة بالغة.ثالثا، من المعروف أن ألمانيا موطن للعديد من المختبرات التي يمكنها اختبار الفيروس، فضلا عن العديد من الباحثين المتميزين في هذا المجال، الأمر الذي يساعد في تفسير لماذا جرى تطوير أول اختبار سريع لمرض فيروس كورونا 2019 هنا. مع عدد سكان يبلغ نحو 83 مليون نسمة، فنحن قادرون على إجراء ما يصل إلى مليون اختبار تشخيصي في اليوم، وقريبا سنكتسب القدرة على أداء نحو خمسة ملايين اختبار للأجسام المضادة شهريا، الواقع أن الاختبار الشامل أشبه بتوجيه مصباح يدوي في الظلام: بدونه لا يمكنك رؤية أي شيء سوى ظلال اللون الرمادي؛ ولكن في ضوئه، تصبح قادرا على رؤية التفاصيل بوضوح وعلى الفور، وعندما يتعلق الأمر بالفاشيات الـمَـرَضية، فلا أحد يستطيع أن يسيطر على ما لا يمكنه رؤيته.من المؤكد أنني بصفتي وزير الصحة الاتحادي في ألمانيا أدرك أننا لا نرى سوى لقطات سريعة، ولا أحد يستطيع أن يجزم بيقين كيف قد تتطور الجائحة في غضون بضعة أسابيع أو أشهر. ونحن لم نفرض حظر التجول على المستوى الوطني، لكننا طلبنا من المواطنين البقاء في مساكنهم طواعية، ومثلنا كمثل العديد من البلدان الأخرى، كنا نعيش في ظل قيود شديدة كبلت الحياة العامة والخاصة لمدة شهرين، واستنادا إلى ما نعرفه فإن هذه الاستجابة كانت ضرورية وفـعّـالة.مع ذلك، لا يمكننا تجاهل العواقب المترتبة على الإغلاق، ولهذا السبب نحاول العودة تدريجيا إلى الحالة الطبيعية، ويتمثل التحدي في أن تخفيف التدابير الوقائية من المحتمل أن يشكل قضية مشحونة بقدر ما كانت مسألة فرض هذه التدابير في المقام الأول، ورغم أننا نعمل في ظل ظروف من الشكوك العميقة، فبوسعنا أن نكون على يقين بشأن الخطر المتمثل في اندلاع موجة ثانية من الوباء، ولهذا يتعين علينا أن نظل يقظين.الوقت فقط هو الذي سيحدد ما إذا كنا اتخذنا القرارات الصحيحة، وعلى هذا فإنني حريص على استخلاص الدروس من الأزمة عند هذه المرحلة، لكن بضعة أشياء تبدو واضحة بالفعل في اعتقادي. أولا، من الأهمية بمكان أن تقوم الحكومات بإبلاغ عامة الناس حول ما يعرفون بالفعل وما لا يعرفون، فهذه هي الطريقة الوحيدة لبناء الثقة اللازمة لمكافحة فيروس قاتل في مجتمع ديمقراطي، ولا تستطيع أي ديمقراطية أن تجبر مواطنيها على تغيير سلوكياتهم، ففي السعي إلى استجابة جماعية منسقة، تكون الشفافية والمعلومات الدقيقة أكثر فعالية بأشواط من الإكراه.في ألمانيا، نجحنا في إبطاء انتشار الفيروس لأن الغالبية العظمى من المواطنين يريدون التعاون، انطلاقا من شعورهم بالمسؤولية عن أنفسهم والآخرين، لكن الحفاظ على هذا النجاح يستلزم أن تعمل الحكومة على استكمال المعلومات اللحظية حول الفيروس من خلال مناقشة عامة مفتوحة وخريطة طريق إلى التعافي.ثانيا، بالإضافة إلى إعلام الناس، ينبغي للحكومات أن تُـظـهِـر اعتمادها على المواطنين لفهم الوضع ومتطلباته، ولأنهم مطلعون، يعرف المواطنون الألمان أن العودة إلى الحياة الطبيعية من غير الممكن أن تتحقق بدون لقاح، وفي التفكير في روتين حياتنا اليومي الجديد، يجب أن تتمحور صيغتنا حول ملاحقة أكبر قدر ممكن من الحياة الطبيعية مع أقصى قدر ممكن من الوقاية حسب الضرورة.طالما جاءت قراراتنا حول مكان وكيفية تخفيف القيود متوافقة مع معايير واضحة ومعقولة، فنحن على ثقة من أن المواطنين الألمان سيدعمون هذه القرارات، ولابد أن تكون قراراتنا مدفوعة بالدليل وأن تؤكد على الحد من خطر العدوى، فنحن نعلم أن التباعد الاجتماعي هو الحماية الأكثر فعالية، وعندما يحافظ الناس على مسافة متر ونصف المتر على الأقل بين بعضهم، ينخفض خطر الإصابة بالعدوى بشكل كبير، وإذا تمكنا من ضمان الامتثال للقواعد الأساسية للنظافة الشخصية، فإن الخطر ينحسر بشكل أكبر، أما المخاطر المتبقية فيمكن التعامل معها بطرق عديدة، اعتمادا على الوضع.ثالثا، أظهرت الجائحة لماذا يحتاج العالم المترابط إلى إدارة الأزمات على مستوى عالمي، ومن المؤسف أن التعاون المشترك المتعدد الأطراف أصبح أشد صعوبة في السنوات الأخيرة، حتى بين الحلفاء المقربين، والآن وقد أدركنا إلى أي مدى نحتاج بعضنا، يجب أن تعمل الأزمة الحالية عمل نداء الإيقاظ، فلا تستطيع أي دولة أن تدير عملية التصدي للجائحة منفردة، نحن في احتياج إلى التنسيق الدولي، وإذا لم تكن المؤسسات الموجودة لهذا الغرض قادرة على أداء وظيفتها على النحو اللائق، فيتعين علينا أن نعمل معا من أجل تحسين أدائها.رابعا، يتعين علينا كأوروبيين أن نعيد النظر في النهج الذي نتعامل به مع العولمة، مع الاعتراف بأهمية إنتاج السلع الأساسية الضرورية مثل المعدات الطبية داخل الاتحاد الأوروبي، وسيكون لزاما علينا أن نعمل على تنويع سلاسل الإمداد لتجنب الاعتماد بشكل كامل على أي دولة أو منطقة بعينها، لكن إعادة النظر في العولمة لا تعني تقليص التعاون الدولي، بل على العكس من ذلك، بدأت الجهود المشتركة بين بلدان الاتحاد الأوروبي بالفعل تدفع التقدم نحو التوصل إلى لقاح، وبمجرد اكتشافه، سيكون من الحكمة أن نضمن إنتاج اللقاح في أوروبا، على أن يتاح للعالم أجمع.الواقع أن هذه الأزمة، مثلها كمثل أغلب الأزمات، تقدم لنا العديد من الفرص، ففي كثير من المجالات، أبرزت أفضل ما فينا: إحساسا جديدا بالتماسك المجتمعي، ورغبة أعظم في مساعدة الآخرين، ومرونة متجددة، وإبداعا، ولا شك أن العواقب المترتبة على الجائحة في الأمد المتوسط ستكون قاسية، ولكن على الرغم من كل الصِـعاب والشكوك التي تنتظرنا، ما زلت متفائلا، ففي ألمانيا، وأماكن أخرى، نشهد بوضوح ما تستطيع ديمقراطياتنا الليبرالية ومواطنونا تحقيقه من إنجاز.* ينس شبان وزير الصحة الاتحادي في ألمانيا.«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»