نهاية النظام العالمي الجديد
يخطئ من يصدّق معظم نظريات المؤامرة، لكن لا يعني ذلك أنها لا تمتّ للواقع بِصِلة، بعضها مجرّد أفكار جنونية أو معلومات مُضلِّلة عمداً، لكن يبالغ البعض الآخر في قراءة النزعات المهمة بدل إنكارها، أو يقدم تفسيرات غير منطقية للألغاز التي تبقى غامضة، هذا الوضع قائم في عهد ترامب كما في أي عهد آخر.لكن تصمد نظريات المؤامرة أحياناً أكثر من الواقع الذي بُنِيت عليه يوماً، وهذا ما يحصل على الأرجح اليوم، في ظل انتشار نظريات المؤامرة عن "النظام العالمي الجديد"، فمن جهة، ينشر فيروس كورونا شكلاً من الرهاب تجاه ذلك النظام، إنها مخاوف متجددة من جانب نخب سياسية سرية تطمح إلى حكم العالم، لكن من جهة أخرى بدأ النظام العالمي الحقيقي، أي الحلم بالاندماج العالمي والحكم العابر للأوطان، يتفكك أمام أنظارنا.ابتكر أصحاب نظريات المؤامرة مصطلح "النظام العالمي الجديد" انطلاقاً من الخطاب التفاؤلي الذي ألقاه جورج بوش الأب، وأصبحت مشاعر الرهاب والوقائع متلازمة منذ ذلك الحين.
يتجدد الكلام عن هذا المفهوم اليوم نتيجة التعامل مع فيروس كورونا الذي يُعتبر عذراً لفرض نظام العالم الواحد، حيث يكون بيل غيتس وأنتوني فاوتشي مهندسَين محتملَين للخطة وتُستعمَل مقاربة "الاختبار والتعقب" لفرض رقابة دائمة.هذه المخاوف تمتد على طول الطيف السياسي، لكن بما أن طبقة الأثرياء والنافذين تكون علمانية ومعادية للدين التقليدي عموماً، كانت المخاوف من حكم العالم الواحد قوية بشكل خاص بين المسيحيين المحافظين، وفي ظل إغلاق الكنائس في الوقت الراهن كخطوة وقائية، وصلت تلك المخاوف إلى التسلسل الهرمي للكنيسة الكاثوليكية، حيث وقّع كاردينالان على الأقل بياناً كتبه رئيس الأساقفة كارلو ماريا فيغانو، فتحوّل من مخبر ضد تغطية الاعتداءات الجنسية إلى منتقد تقليدي، ويصف ذلك البيان تدابير الإقفال التام بسبب فيروس كورونا بـ"الخطوة التمهيدية المحتملة لترسيخ حكم عالمي خارج عن السيطرة".لكن على عكس ما حصل خلال التسعينيات أو في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين بالغ المتخوفون من نظام العالم الجديد في تقدير التطورات والنزعات الواقعية، يبدو الواقع اليوم معاكساً للمخاوف القائمة، وبدل التوجه نحو ترسيخ العولمة، يبدو أن فيروس كورونا بدأ يفكك سياسة التعاون الدولي في كل مكان.كشف الفيروس عن ضعف الكيانات العالمية وهشاشتها السياسية، وهذا ما حصل مثلاً مع منظمة الصحة العالمية أو الأمم المتحدة، وأدى الوباء المستجد إلى تشديد التدابير على الحدود، وكبح موجات الهجرة، ونقل السلطة من الجهات الدولية إلى الأوساط الوطنية، ومن الأوساط الوطنية إلى الحكام المحليين، كما أنه جدّد المنافسة بين القوى العظمى، فبدأت العلاقات الصينية الأميركية تتفكك وتلوح في الأفق حرب باردة عابرة للمحيط الهادئ. صحيح أن بعض أشكال الاختبار والتعقب قد يزيد قوة المراقبة بالوسائل التكنولوجية، لكن على جميع المستويات الأخرى، قد تتلاشى النزعات والمؤسسات التي تؤجج الرهاب من النظام العالمي الجديد أو ربما تنهار أو تضعف بشكلٍ دائم.تنطبق النقطة المضادة نفسها على فكرة أخف وطأة مفادها أن الإقفال التام بسبب الوباء هو تعبير عن مراحل متقدمة من الكونية العالمية الليبرالية وهوس التكنوقراط الليبراليين بالصحة الجسدية والسيطرة على الدولة.على أرض الواقع، تكون الليبرالية في مراحلها المتقدمة مهووسة بالصحة ورقابة الدولة لأغراض مرتبطة بالتحرر الشخصي والبحث عن المتعة والسياحة والتجارة، لذا لن تكون فترة الإقفال التام وإغلاق الحدود تمجيداً للكونية العالمية الليبرالية، بل إنها شكل من النفي الموقّت لها، وليست مصادفة أن تقرر السويد، أبرز دولة علمانية وعالمية من بين البلدان الغربية، إبقاء الحانات مفتوحة والسعي إلى اكتساب مناعة جماعية.لا يعني ذلك النفي الموقّت أن النظام الليبرالي يوشك على الزوال تمهيداً لنشوء عصر جديد بعد زمن الليبرالية، ولا يعني ضعف منظمة الصحة العالمية أو الاتحاد الأوروبي أن العولمة الإيديولوجية والمؤسسية ستختفي بكل بساطة، لكن في حقبة ما بعد الوباء، قد تصبح الليبرالية والعولمة أقرب إلى "إيديولوجيا الزومبي"، أي أشباح الماضي المثالي والأكثر طموحاً، بدل أن تكون قوى صاعدة لنشر الأمل أو الخوف.كل من يخشى هذه النزعات في الوقت الراهن، إلى حد الرهاب أو تصديق نظريات المؤامرة، قد يدرك قريباً أنها مجرد أفكار خاطئة عن القوة الحقيقية، أو غروب مرير لعصر العولمة تمهيداً لبزوغ فجر نظام عالمي جديد.* روس دوثات