الناقد عبدالله إبراهيم: القرآن حجب السرد الجاهلي
«على الباحث التشبع بمعارف زمنه مع عدم الولاء الأعمى لها»
يبدو الناقد العراقي المعروف عبدالله إبراهيم، كبحر علم، والحديث معه يأخذك إلى فضاءات أكثر رحابة من مجرد إلقاء الضوء على تجربة متخصّص في الدراسات الثقافية والسردية، وهو ما يتضح عبر هذا الحوار الذي أجرته معه "الجريدة" من القاهرة، حيث يشير إلى رؤيته كناقد ينصح الباحثين بالاستزادة من معارف الزمن الراهن، والتشبع بها من دون ولاء أعمى لها، ويؤكد أن المرويات السردية الجاهلية حُجبت خلف حاجزي القرآن والتدوين... وفيما يلي نص الحوار:
• تتنقل داخل مناطق إشكالية في ساحة البحث بالسرديات، عبر الاختلاف والمراجعة لمنجزات الآخر، ألا يجعلك هذا في مواجهة مع جمهور الباحثين الذين يعتمدون مناهج النقد الغربية؟-على الباحث أن يستزيد من معارف زمنه، ويتشبّع بها من غير ولاء أعمى لها، وكنت قد عرفت المناهج الشكلية والبنيوية والسيميولوجية والتفكيكية، واستقيت بعض مفاهيمها في مؤلفاتي الأولى، غير أنني كنت أتولى التفكير فيها بما يجعلها منشّطة لي في عملي، وليست قيداً يكبلني، فلا آخذ المفهوم كما وردني في أصله الأجنبي إلا عند الضرورة القصوى بعد الاستيعاب والمناقشة، وعلى هذا كانت الأفكار والمفاهيم تتعرض إلى التعديل، والتغيير، والمناقشة، والتقليب، ويعاد توظيفها بما يوافق السياق الذي تندرج فيه، فتكتسب فعلاً جديداً في بحثي لم يكن وارداً في الأصل، وبهذه الطريقة كنت أفهم أهمية المشترك الثقافي للمفاهيم في الآداب الإنسانية، فلا تثبت على حال جامدة، بل تتطوّر بحسب السياق الذي تستخدم فيه. وقد وضعني ذلك في خلاف نقدي مع بعض من أقراني من النقاد الذين امتثلوا لسياق النظريات الغربية امتثالاً تاماً، وعدّوها علماً نظرياً متعالياً بدواعي مراعاة شروط العلوم النظرية، وهو أمر لم أجده فاعلاً في الدراسات السردية، وما كانت غايتي الإسهام في تكوين علم، بل استكناه طبيعة المادة السردية التي أعمل عليها.
المناهج الجاهزة
• كأنك تنفي الأثر المباشر للمناهج الغربية في مؤلفاتك السردية.-يتعذّر نفي أثر المناهج الغربية فيما كتبت، غير أني جعلته ملهماً لي في المعاينة الدقيقة للأبنية السردية، وليس قالباً جامداً. ويعود عدم امتثالي للمناهج الغربية، كالمنهج البنيوي على سبيل المثال، فضلاً عمّا كنت أتحسّب له من تحرير نفسي من ربقة المناهج الجاهزة، إلى ما اطلعت عليه من مناهج أخرى كالتفكيك، ونظريات التلقي، ومجمل الاتجاهات السيموطيقة والتداولية، وجميعها ضربت الأسس اللسانية التي أقامت عليها البنيوية صرحها النقدي، وقد انصرف اهتمامي إلى البنيات السردية، وتداول الرواة للمادة الحكائية، ومستويات تلقيها داخل العالم المتخيّل الذي تبتكره النصوص السردية، وبمرور الوقت تفاعلت مع الاتجاهات اللاحقة في الدراسات الأدبية، ومنها الدراسات الشفوية، ودراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات النسوية، ودراسات الهوية، إذ نشّطت تلك المناهج لديّ قوة التأويل، واقترحت عليّ زوايا نظر جديدة في معاينة الظاهرة السردية، فالناقد كائن متصل بروح المؤثرات المعاصرة له، وليس مطلوباً منه أن يجعل عمله صدى لها، بل يهتدي بما يرفد عمله بأدوات تحليليه تسعفه في الحصول على نتائج تثري الغاية التي يقصد إليها في عمله النقدي.الخطأ الشنيع
• هل تدعو إلى نظرية نقدية عربية في دراساتك السردية؟-لا يُسمح في العلوم الإنسانية الأخذ بنظرية وضع الحافر على الحافر، فذلك من الخطأ الشنيع الذي لا يثري العلم الإنساني، فإنما العلوم الإنسانية، ومنها الدراسات السردية، مباحث يهتدي بها العاملون في الآداب لكي يتوصلوا إلى نتائج مفيدة للآداب القومية، نتائج لا تحيل المادة السردية إلى نموذج اختباري لبيان صواب النظرية، بل تكون حقلاً تمارس فيه النظرية فعلها بهدف إثرائه، وكشف المضمر فيه، والإشارة إلى ما يتميز به من خصائص جمالية ودلالية، ومن دون ذلك ترغم المادة الأدبية على أن تكون شريحة اختبار يمارس عليها المُختبر مهاراته الاختبارية التي تظهر براعته، لا قيمة المادة التي هي موضوع اشتغاله، ويصحّ القول بأنني لم ألتزم إطاراً نظرياً قارّاً لأي من المناهج النقدية التي شاعت في العصر الحديث، فليس من أهدافي استجلاب نظرية، وإثبات فرضياتها، بل اجتهدت في اقتراح ما رأيته نافعا لي في التحليل والتأويل، ولكن لَم يجر ذلك بمعزلٍ عن المؤثرات المنهجية والفكرية التي عاصرتها، وأدعو إلى ضرورة أن يعمّق الناقد وعيه بالخطاب السردي الذي يعالجه، ويستعين بعدةٍ منهجية تسعفه في تحقيق ما يريد، وتساعده في جعل الخطاب يفصح عما فيه، ويحذر من حبس الظاهرة السردية في إطار نظرية مغلقة لا تستجيب لطبيعة تلك الظاهرة، وهي طبيعة متنوعة، وفيها من الخروج على الأعراف الأدبية الشائعة أكثر من الامتثال لها.القيم الأخلاقية
• لك رأي خطير ورد في كتابك "موسوعة السرد العربي"، وكان مثار اهتمام، حيث قلت إن غياب السرد العربي في الحقبة الجاهلية يعود إلى القرآن والتدوين. كيف حدث ذلك؟-نعم، لقد حُجبت المرويّات السرديّة الجاهليّة خلف حاجزي القرآن والتدوين، وطُمست لأنها حملت عقائد الجاهليّين، وتعارضت مع الرؤية الدينيّة، ومع المؤسّسة التي وجّهت التدوين إلى الاهتمام بما لا يتعارض وجملة القيم الأخلاقيّة والروحيّة التي جاء بها الإسلام، أو اندمجت في سياق النصوص الدينيّة، وعرفت بـ"أساطير الأوّلين". تلك الأساطير، هي لبّ المرويّات السرديّة التي سادت في ذلك العصر، وهي الأساطير التي أُسقطت من مسار التاريخ الثقافيّ، وجاء القرآن على ذكر نُبذٍ منها، إما في سياق الذمّ والانتقاص، أو ضرب العِبر بأخبار الماضين. ثم شُغل التدوين بالقضايا التي ظهرت في عصره، فدوّن المدوّنون المرويّات المقبولة في عصرهم، وأهملوا ما خالف ذلك، بل تجنبوه ولمّا كان عصر التدوين مختلفاً في مشكلاته السياسية، والاجتماعية، والروحية، عن العصر الجاهلي، فإن كثيراً من المرويّات التي ظهرت في العصر الجاهلي لم تجد لها مكاناً في المدوّنات، التي استجابت للمؤسسة الدينية-السياسية التي نشأت، في الأساس، على افتراض نوع من القطيعة الثقافية والروحية مع تلك الحقبة الجاهليّة، وهي قطيعة كانت تقول بأن الأصل الأوّل، والتامّ، والمطلق، تأسّس بالنص الديني الذي جَبّ ما قبله. ثمة حواجز يتعذّر اختراقها، لم تُذكر أخبار الأوائل، كما قال المسعودي، لأن "أصحاب الشريعة" ينكرون ذلك ويمنعونه؛ الأمر الذي أدى إلى إسقاطها، أو وضع أطر دينية تسهل اندراجها في المرويّات الإسلامية بعد تغيير مضامينها.الناقد العراقي بين المؤلفات والجوائز
عبدالله إبراهيم ناقد وأستاذ جامعي من العراق، متخصّص في الدراسات الثقافية والسردية، وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature)، وزميل معهد (Sangalli) للدراسات الثقافية في فلورنسا بإيطاليا، وعضو الهيئة العلمية لمعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، وحاصل على جائزة "الملك فيصل العالمية في الآداب واللغة" لعام 2014، وجائزة "الشيخ زايد" في الدراسات النقدية لعام 2013، وجائزة "شومان" للعلماء العرب لعام 1997. وأصدر أكثر من 20 كتاباً، منها: "موسوعة السرد العربي" في 9 أجزاء، و"المطابقة والاختلاف" في 3 أجزاء، و"أعراف الكتابة السردية"، و"الأرشيف السردي"، و"أمواج" سيرة ذاتية.
الناقد كائن متصل بروح المؤثرات المعاصرة له وليس مطلوباً منه أن يجعل عمله صدى لها
يجب أن يعمّق الناقد وعيه بالخطاب السردي الذي يعالجه ويستعين بعدةٍ منهجية
يجب أن يعمّق الناقد وعيه بالخطاب السردي الذي يعالجه ويستعين بعدةٍ منهجية