شهد أفضل عصر غابر حدثاً صادماً ومباغتاً، فتحوّل فجأةً إلى أسوأ عصر على الإطلاق! اجتاح وباء أقوى بلد في العالم، فعطّل اقتصاده وهدد بتفكيك مؤسساته المدنية والسياسية، في عالمٍ مثقل أصلاً بالاضطرابات بين الدول المتنافسة والكوارث الطبيعية الناجمة عن الجفاف والمجاعة، اعتُبِر الوباء "أسوأ حدث كارثي وقاتل" على الإطلاق، ففي صيف عام 430 قبل الميلاد، "بدأت أولى مظاهر الطاعون تتّضح بين سكان أثينا"، كما يذكر المؤرخ الإغريقي ثوسيديديس في كتابه History of the Peloponnesian War (تاريخ الحرب البيلوبونيسية).رغم مرور ألفَي سنة ونصف على كتابة ثوسيديديس لهذه الكلمات، يتردد اليوم صدى "تحقيقه" بأسباب ونتائج الحرب التي أنهت هيمنة أثينا على العالم الإغريقي، فما كان ثوسيديديس ليتفاجأ بما يحصل، فهو أعلن يوماً أنه كتب "مرجعاً لجميع الأزمنة". يوافق واضعو النظريات حول العلاقات الدولية وخبراء آخرون على هذا الادعاء، فقد انجذب هؤلاء العلماء إلى الأسلوب الموضوعي في وصف الأحداث وتشخيصها في اليونان القديمة ولم يكتفوا باعتبار ذلك المؤرخ الشهير أباً للتاريخ فحسب، بل اعتبروه أباً لمختلف أشكال الواقعية، بدءاً من الواقعية الكلاسيكية وصولاً إلى الواقعية الجديدة والواقعية الهجومية.
لكن لم يكن ثوسيديديس واضع نظريات بقدر ما كان فيلسوفاً أخلاقياً، ولم تكن مواضيعه تتعلق بشكلٍ أساسي بالديناميات الدولية، مثلما لم يكن سوفوكليس يركّز على الديناميات العابرة للأجيال، لكن استكشف هذان الكاتبان (اختبر كل واحد منهما الطاعون وكتب عنه) الظروف الإنسانية واستخلصا منها بعض العِبَر الأخلاقية، ومثلما يتعامل سوفوكليس مع رد "أوديب" على الطاعون في طيبة، يستعمل ثوسيديديس الأسلوب نفسه لشرح تعامل سكان أثينا مع الطاعون في مدينتهم: هو يحلل التداعيات الأخلاقية للتصرفات، فيمدح بعضها وينتقد بعضها الآخر، فإذا كان ثوسيديديس محقاً حين قال إن "مسار الظروف الإنسانية" لا يتغير مطلقاً، يمكن اعتبار الدروس التي يقدّمها في كتابه عن الطاعون مهمة في الزمن المعاصر أيضاً.لطالما احتار العلماء المعاصرون حول طبيعة المرض الذي دمّر أثينا، وقد تراوحت الخيارات المحتملة بين الكوليرا والإنفلونزا والتيفوئيد والإيبولا، لكن لم يكن ثوسيديديس يهتم بأصل المرض أو أسبابه، فكل ما كان يهمّه هو أنه وباء لا مثيل له، وبين لحظة وأخرى، كان صداع قوي يصيب أشخاصاً أصحاء، ثم تظهر لديهم أعراض العطس وبحّة الصوت والالتهاب، ثم "يصل الألم إلى الصدر ويترافق مع سعال حاد"، حيث كان المصابون يواجهون اضطرابات داخلية أخرى، فيعيشون معاناة كبرى طوال أسبوع قبل وفاتهم. "مات البعض بسبب الإهمال، ومات البعض الآخر رغم تلقي أقصى درجات الرعاية". صُدِم الأطباء بطبيعة المرض غير المسبوقة، فماتوا قبل المرضى الذين حاولوا معالجتهم، وتبيّن حينها أن الآلهة التي يعبدها السكان لم تكن مفيدة أيضاً، سرعان ما اختفت الأدعية والأضاحي الاعتيادية لأنها لم تُعطِ أي نتيجة.ذلك "العقاب الإلهي الكارثي القاتل الذي تعجز الطبيعة البشرية عن تحمّل ألمه" لم يستهدف الجسم فحسب، بل أصاب المجتمع ككل، وسرعان ما تصاعدت الإصابات في مؤسسات المدينة، وتخلى الناس سريعاً عن طقوس الدفن التقليدية، وامتلأت الشوارع والمعابد بجثث الموتى وأشخاص على شفير الموت، أما الأحياء فتحطموا من ضخامة ذلك الحدث و"فقدوا اهتمامهم بجميع المظاهر المقدسة أو الدنسة"، وفي ظل تلاشي "الخوف من الآلهة أو قانون البشر"، أصبحت الفوضى سيّدة الموقف، فراح الناس "يجاهرون بهدوء بكل ما كانوا يفعلونه خلسةً في السابق".وفق تقديرات المؤرخين، مات حوالي 30% من سكان المدينة التي شملت 200 ألف نسمة بسبب الطاعون، ليصبح هذا الرقم صادماً بدرجة إضافية حين نعرف أن ثوسيديديس لا يطرح أي أرقام دقيقة عن عدد الوفيات نتيجة الطاعون، مع أنه يقدّم في مراجعه التاريخية الأخرى أرقاماً دقيقة عن الجنود والمعدات، لكنه يختم كتابه بعبارة خالدة: "هكذا كانت طبيعة الكارثة، وقد ألقت بأعبائها الثقيلة على سكان أثينا، فاجتاح شبح الموت المدينة وانتشر الدمار في كل مكان".صفات البشر ومصيرهميروي ثوسيديديس تفاصيل الطاعون بعد أشهر في مقطع من كتابه: التأبين الذي يلقيه بريكليس للإشادة بالمواطنين والجنود الذين سقطوا في المعارك ولمدح "قوانين" المدينة التي تشمل العادات والتقاليد أيضاً، أي معايير المجتمع، كان بريكليس يصوّر مجتمع أثينا على أنه نموذج للاتزان والاعتدال، بمعنى أنه جريء لكن غير متسرع، ومنفتح لكن دائم الحذر، وغير أناني لكن يدرك مصالحه الخاصة، تلك الصفات برأيه جعلت أثينا "مدرسة لليونان كلها".لكن يكشف مصير أثينا مدى هشاشة تلك القوانين، وحالما تنتهي مراسم الدفن، كان الطاعون يستفحل في كل مكان، حيث وقع بريكليس بدوره ضحية ذلك الوباء، فقد خذلته "حكمته" التي كان يتفاخر بها ومنعته من توقّع هذا الحدث، حتى أنها ساهمت في تفاقمه. أدى قراره بنقل العائلات من المزارع وراء جدران أثينا المكتظة أصلاً، لحمايتهم من سكان أسبرطة، إلى انتشار الوباء وموته شخصياً. كان سوفوكليس يستطيع كتابة تفاصيل تلك اللحظة، هو كتبها فعلاً خلال العقد الذي تلا الطاعون، وقُدّمت مسرحيته Oedipus the King (أوديب الملك) في عام 426 قبل الميلاد على الأرجح، أي تزامناً مع تلاشي الموجة الثانية (لا الموجة الأولى) من الطاعون، هكذا شاهد جمهور مؤلف من الناجين المذهولين قرار "أوديب" المأساوي بمحاربة الطاعون الذي غزا مسقط رأسه في طيبة، فكان ذلك القرار مأساوياً رغم النوايا الحسنة الكامنة وراءه لأنه أدى إلى تدمير "أوديب" ومدينة طيبة كلها.في النهاية، تكشف مسرحيات سوفوكليس، على غرار مراجع ثوسيديديس، أن مسار الأحداث التاريخية يشهد تقلباً مستمراً، لكنّ صفات البشر تبقى ثابتة، فالسلطة تُعمينا، والغطرسة تحطّمنا، والثروة تسعدنا، لكن مع نفحة من السخرية دوماً، كما يستنتج الكاتبان أن الغضب يحرك الناس أكثر من الأمل، لكنه يدفعهم في الاتجاه الخاطئ، وفي ظل تصاعد الحرب وتفاقم الطاعون، لام سكان أثينا بريكليس، فعاقبوه على القرارات التي أشادوا بها سابقاً، وبعد وقتٍ قصير على وفاته، أخذ ألسيبياديس مكانه وكان لامعاً بالقدر نفسه، لكن لطالما انشغل بتحقيق مصالحه الخاصة، فأدى جشعه وغروره إلى تدمير مدينته.لا يترك ثوسيديديس فسحة أمل كبيرة، لكنه لا يسمح بنشر اليأس، وكانت الباحثة في العصور الكلاسيكية القديمة، ليزا إيرين هاو، محقة في قولها إن ذلك المؤرخ القديم يقدم درساً أخلاقياً بناءً على قيمة البساطة، وكان بريكليس تجسيداً حياً لتلك البساطة (إنها الشخصية الوحيدة التي لم ينتقدها ثوسيديديس يوماً على مر التاريخ)، وتُعتبر هذه القيمة نسخة منقّحة من القوانين التي شوّهها الطاعون لكنه لم يدمّرها، فالتاريخ مرجع لجميع الأزمنة لأن فضائل الذكاء والاستقامة والفكر المدني والانفتاح، في الماضي كما في الحاضر، قد تتوارى عن الأنظار أحياناً لكنها لا تختفي مطلقاً.* روبرت زاريتسكي
مقالات
حين وصل الطاعون إلى أثينا
04-06-2020