خلال الأيام القليلة الماضية وفي ذروة الضياع السياسي الناجم عن انتشار وباء كورونا قرر تلفزيون موسكو الخاضع لسيطرة الدولة ولأسباب غامضة بث مقابلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت جرت في شهر سبتمبر الماضي.وبحسب المفهوم السياسي السائد في روسيا فإن هذه السمة تطرح ما يعرف باسم "السلع المعلبة" أو "المحفوظة"، وقد أصبحت جزءاً من المعالم السياسية الروسية، وهي تصور حالة يجهل الناس فيها موعد إجراء مقابلة مع الرئيس بوتين أو المكان الذي كان يتحدث منه، وعلى سبيل المثال عندما يبث التلفزيون مقابلة للرئيس قد يكون بوتين في رحلة صيد في منطقة نائية أو يعمل على حل أحجية كلمات متقاطعة في منزله.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه العجالة هو ما السبب الذي دفع القناة الروسية الى بث تلك المقابلة في هذا الوقت؟ وقد تضمنت المقابلة تصريحاً للرئيس بوتين، أكد فيه أن "روسيا ليست مجرد دولة فقط، بل هي أيضاً حضارة متميزة تزخر بتقاليد غنية وشرائح متعددة الأعراق والكثير من الثقافات والمعتقدات"، ولهذا السبب– يمضي الرئيس الروسي الى القول– يتعين على روسيا تطوير التقنيات العصرية التي ستمكن هذه الحضارة تحقيق التقدم والاختراق في شتى ميادين الحياة وبما يحقق الرفاهية للمجتمع المتحضر.وفي منظور التساؤل المنطقي عن سبب بث تلك المقابلة بعد إجرائها بوقت طويل يتعين علينا أن نتذكر أن مثل تلك الحالات لا تحدث عن طريق المصادفة في روسيا اليوم، ومن هذا المنطلق يتعين علينا أيضاً معرفة أن نشر المقابلة يتطلب موافقة جهات عليا تصادق على مضمونها، ومن جهة أخرى يتعين علينا محاولة استعراض تصريحات الرئيس بوتين وقراره حول بث تلك المقابلة المثيرة للجدل.
وجهة نظر تكتيكية
في غضون ذلك، ومن وجهة نظر تكتيكية أيضاً تبرز المجادلات حول كلام الرئيس الروسي المتعلق بما وصفه "حضارة روسيا المتميزة" والتقنيات العالية المحددة التي ستظهر عما قريب تتماشى بصورة تامة مع الرواية التي تتحدث عن رأي سلطات الكرملين بشأن انتشار وباء كورونا المستجد.ومن جديد يعود السؤال حول السبب الذي دفع الى بث تلك المقابلة في هذا الوقت بشكل خاص، ويترافق ذلك مع السؤال حول السبب الذي جعل أعداد الإصابات بالوباء قليلة جداً في روسيا، وهل يرجع ذلك الى كونها حضارة متميزة وخاصة؟وثمة سؤال آخر وهو: ما سبب عدم تقديم الحكومة الروسية مساعدات مالية الى مواطنيها ثم تقديم القليل جداً في وقت لاحق؟ وقد اقتصرت تلك المساعدات المالية على العائلات التي لديها أطفال فقط، فهل يرجع ذلك الى أن روسيا تمثل حضارة خاصة؟ من المتوقع أن تتمكن روسيا في وقت قريب من تطوير لقاح لعلاج وباء كورونا وتقدمه الى العالم على شكل دليل على الانجاز العلمي الكبير فيها.إخفاء مظاهر الظلم
الكل في روسيا يعلم بشكل أو بآخر أن التصريحات والبيانات الرسمية تمثل محاولة تهدف الى اخفاء الظلم الشديد، ولم تقدم الحكومة المكافآت التي وعدت بها الأطباء وعناصر المساعدة الطبية الطارئة كما أنها لم تتمكن حتى من توزيع كمامات الوجه الى المواطنين بشكل مجاني، ولكن ذلك لم يكن مهماً لأن روسيا تمثل حضارة متميزة.ومن المهم على أي حال، أن نلاحظ بأنه حتى المواطن الروسي العادي يفهم أن سلطات بلاده ستقوم "بحملة شديدة ضد الوطنيين" وملء الفضائيات بتصريحات فارغة حول ما يوصف "بالحضارة المتميزة" فإن ذلك لا يعني عدم موافقة الشعب على تلك الفكرة.وقد عززت روسيا وخلال وقت طويل جداً النظرة القائلة إن روسيا وشعبها "نوعية متميزة خالصة"، وهذه النظرة ليست مثل الفكرة التي يطرحها اليهود عن أنهم "الشعب المختار" أو حتى الصورة التي أطلقها المستوطنون الأوائل في الولايات المتحدة عن أنها "المدينة المضيئة فوق تلة"، بل هي في واقع الحال أشياء لم تتم صياغتها بصورة تامة، ولكنها مفهومة بشكل تام من جانب كل شخص يقيم في روسيا.من المؤكد أن الوصف الدقيق والمفصل لن ينصف ذلك الموقف، فهو يشبه بصورة وثيقة الحالة النفسانية لشاب مراهق مقتنع بعدم وجود أي شخص في العالم كله يمكن أن يتعرض للمشاكل ذاتها التي أصابته، وأنه ما من أحد يمكنه أيضاً أن يفهم حالته، وتجدر الاشارة الى أن هذه الحالة النفسانية– مع فترات انقطاع نادرة– قد تعززت في روسيا طوال الـ500 سنة الماضية على الأقل.جد إيفان الرهيب
وقد بدأت تلك الحالة عندما تزوج جد إيفان الرهيب من أميرة بيزنطية، وطرحت مجموعة من كتابه في ذلك الوقت الفكرة القائلة إن روسيا هي "روما الثالثة"، وذلك يعني انهيار حضارة روما نفسها إضافة الى القسطنطينية في صورة "روما الثانية".وفي أوقات متعددة ولأغراض مختلفة كانت روسيا "مملكة الأورثودكس الروسية الوحيدة" كما كانت أيضاً "الدولة الشيوعية الحقيقية الوحيدة".والفكرة العميقة هنا هي طبعاً في كلمة "الوحيدة" أي "الفريدة" و"الخاصة" إضافة إلى "التفرد" وعدم وجود نظير، وقد أعدت السلطات الروسية مجموعة من الأفكار حول الشخصية الوطنية واللينينية، ومهما طرأ بعد ذلك من تغيرات فإن تلك الفكرة ظلت ثابتة.وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الاعتقاد بالحصرية والتفرد يجري بعمق في نفس المواطن الروسي، وحتى في أوساط الليبراليين الروس والمؤيدين للغرب يتشاطرون الاعتقاد بأن روسيا متفردة ومتميزة، وفي حين يرى معظم رفاقهم أن تلك الفكرة جيدة يرى البعض أنها سيئة الى حد كبير بسبب ما وصفوه بـ"الاستبداد واستعباد المواطنين" إضافة إلى طرحها مثالاً سلبياً فريداً وهو درس يتعين على العالم كله أن يستوعبه.انتشار التفرد البغيض
وتنتشر سمة التفرد هذه في كل مكان، وتمتد من الأمثال الروسية التي تقول "ما يفيد الروسي يمكن أن يقتل الألماني" الى الأفلام والقصائد والنكات اللاذعة، ولكن بدلاً من الانتقال الى نقطة أبعد من هذا الضياع تستمر السلطات الروسية في استخدامها، والسؤال هو ما الدافع وراء هذا التصرف؟ والجواب هو لأنه يجعل التحكم في البلاد أكثر سهولة، كما أن الأنظمة المطلقة الحديثة في أوروبا، مثل نظام الجنرال فرانكو السابق في اسبانيا أو مجموعة الكولونيلات السود في اليونان أقدمت على مثل تلك الخطوة.والمشكلة ليست حول ما اذا كان ذلك الاعتقاد يتمتع بأرضية صلبة لأنه لا يملك مقومات تمكنه من ذلك، والحديث عن الحضارة السلافية العظيمة– على سبيل المثال– يثبت فشل روسيا في التعامل مع أبناء تلك الحضارة، وأما بالنسبة الى الحضارة الأورثودكسية الروسية– وخلال العشرين عاماً الماضية فقط– فقد توجهت روسيا نحو الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة ضد دولتين تتبعان ذلك المذهب وهما جورجيا وأوكرانيا.المشكلة الحقيقية
ومن ذلك المنطلق يمكن التأكيد بأن المشكلة الحقيقية تكمن في غرابة الصورة التي تسود في روسيا حول ذلك الاعتقاد الذي يشتمل على الفكرة القائلة "نحن أمة خاصة، وحتى اذا كان كل شيء سيئ هنا نحن نفخر به".وعلى الرغم من ذلك كله، وبعيداً عن الثقة الواضحة بالنفس فإن روسيا تشعر بحساسية ازاء ما يقوله الآخرون عنها وخصوصا في الدول الغربية، وكيف يتم انتقادها أو الثناء عليها، وهذا مثل آخر على عقدة التفوق التي يبدو أن قادة روسيا زرعوها في نفوس المواطنين وبخلاف الصورة التي تمثل لينين في الساحة الحمراء في العاصمة موسكو.طريق الخلاص
ولا بد من التأكيد بأن السبيل الوحيد لتمكين الشعب الروسي من العيش بصورة طبيعية يتمثل في التغلب على تلك العقد النفسانية والتخلي عن فكرة "إظهار ما لدينا الى العالم كله"، كما يتعين على روسيا الشروع في نقاش وطني لتحديد وتصحيح العقد التي غرست في نفوس المواطنين منذ مئات السنين، ولكن ذلك سيحدث بعد انتهاء حكم بوتين فقط.• إيليا كليشن