الجادة الخامسة بمدينة نيويورك وعدسة كاميرا أحد المارين بسياراتهم تنقل مشهداً لا سابقة له في السنوات الأخيرة، وهو أن تتحول ضوضاء ذاك الشارع إلى صمت، وواجهات المحلات الفخمة إلى ألواح خشبية كأنها بقايا تابوت، يأتي الصوت المندهش «انظروا انظروا كل المحلات أصبحت عبارة عن صناديق من الخشب إلا ذاك البوتيك الفخم»، والإجابة واضحة لأنه يقع في برج الرئيس ترامب حيث الحراسات المشددة، تعلو الأصوات في شوارع نيويورك وعشرات المدن الأميركية، أصوات أقوى من صواريخهم وقنابلهم وكل أسلحتهم التي هتكت كرامة مدن عديدة، وحولتها إلى بقايا مكان، بل سلبت أهلها كل ما تبقى لهم من عزة. تحمل الرياح أصوات الغاضبين إلى ما بعد المحيط، بل ربما همساته هو ورأسه تحت حذاء الشرطي الأبيض، وعيناه محدقتان في الفراغ «لا أستطيع أن أتنفس»؛ ثماني دقائق و46 ثانية هي كم أصبحت حياة الكثيرين رخيصة، ربما الأصح أن يقال إنه لا تتساوى حياة مع حياة، لبعضنا أثمان أكبر، وآخرون لا ثمن لهم، جثة أخرى ترقد في برودة المشرحة ومن بعدها يضمها تابوت وترمى عليها حفنة من تراب ويقفل الملف. رقم آخر هو، كم وصلت أعدادهم؟
بعضهم يسحق تحت الحذاء أو برصاصة من هم معنيون بالمحافظة على الأمن والسلام في المجتمع!! وآخرون هم حطب الحروب المتناثرة التي لم تستثنِ أحداً، لا عرق ولا طائفة ولا لون ولا ديانة ولا قومية، كلهم أعداؤنا رددوا، بل كلهم يكرهوننا ويحقدون على حلمنا الجميل، روجوا الكذبة الكبرى ما يعرف بالحلم فصدقوه هم وكثير من فقراء ومعوزي العالم. ليس هو الأخير حتماً وبالتأكيد ليس الأول، العنصرية داء متفشٍّ بل إرث لكل تلك الإمبراطوريات التي غابت عنها الشموس ورحلت عنها الأقمار، وعاشت هي تملأ كتب تاريخها وتاريخ الشعوب التي استعمرتها وأذلتها، بكثير من الأمجاد والبطولات حتى نتذكر أسماءهم ونرددها أكثر من رجالات ونساء رفعوا الصوت حينها كما هي حال المنتفضين الآن، الراغبين في التخلص من هذا الوهم، الرافضين لأفلام هوليوود التي كرست الإفريقي الغبي والمكسيكي المجرم والآسيوي المحتال والعربي فوق جمله، والمسلم مع إرهابه، والروسي الفاسد الذي لا يغسل سوى أمواله، أما الهندي الأحمر المواطن الأصلي لذاك الوطن فقد كان ضحية واضحة لعنصرية لم تنتهِ أبداً، فكرست كل ذلك عبر الاندساس بين تكنولوجيا السينما الأميركية الرائدة!! من يدعو إلى الديمقراطية والحضارة والمدافعون عن حقوق الإنسان ما هم إلا أحفاد سارقي الأراضي ومغتصبي نساء المستعمرات، ومشاهد تعذيب من يقاومهم لا تزال راسخة في الذاكرة الشعبية، فكيف نستطيع نسيان «أبوغريب» و«غوانتنامو»، وهذه حديثة جداً ودليل قاطع على تمسك الأحفاد بطباع و«أخلاق» الأجداد والمحافظة على ذاك التراث، هم يرددون أننا قمنا بذلك لإنقاذ شعوب بأكملها من تخلفها وجهلها وظلم ذوي القربى، وهنا بدأت الحكاية ولم تنتهِ فصولها بعد، رواية طويلة من العتمة، أما المفردات فهم الأكثر ابتكارا لها؛ مفردات ترسخت في قاموس لغات العالم ربما بإدراكنا أو حتى لأن العبد يقلد مستعبده دائما بل يقدسه أحيانا، مركب آخر من مركبات نقص الرجل الأبيض الذي تحول، بعد نهاية استعماره القديم بأنماطه وسبله، إلى إشكال مستجدة ومحدثة منه، استعمار الاقتصاد والثقافة واللغة والمرجعية الأخلاقية وازدواجية المعايير المتوارية والكيل بمكاييل مختلفة وإغلاق نوافذ وأبواب المؤسسات الدولية عليها فقط، على تلك التي انتصرت بقنابلها وأسلحتها الفتاكة وأركعت العالم، كما قام ذاك الشرطي الأبيض بوضع القدم على رقاب الشعوب وقطع الأكسجين حتى تخرج الروح مع آخر نفس.المذهل في كل ذلك أن يردد البعض «ما كل هذا العنف؟»، وفي الوهلة الأولى تتصور أن السائل يقصد الشرطي الأبيض الذي قتل الرجل الأسود، فيصدمك الرد أنه عنف المتظاهرين وسرقتهم للمتاجر الفخمة، ومنها بل على رأسها محلات آبل، يستغرب البعض أن يسرق أحدهم هاتفاً يكلف مئة دولار أو أقل ويباع بألف أو أكثر، بل ينكرون حق الغاضبين في ردة فعل غير مدروسة أن يحطموا واجهات المحلات والمباني، ولا يستنكرون النهب العلني اليومي من حكومات ومؤسسات عالمية وشركات ما فوق القانون... عجبي!! أما «المندسون» فهذه صفة أو حجة توزع على الزعماء بالتساوي، ورقة تأتي مع توليهم لمناصبهم وبإمكانهم سحبها متى شاؤوا ويرددونها حتى يصدقهم بعض السذج وعبيد السلطة، ربما هي ليست صرخة في وجه العنصرية فقط، بل في وجه عنف الدولة وعنف الاستعمار الاقتصادي وعنف الظلم المتفشي، ففي حين يردد المتظاهرون والمعتصمون والغاضبون «لم نعد قادرين على التنفس فقد خنقتم آخر أحلامنا وفضاءاتنا» يقولون هم «كم أنتم فوضويون، زعران، لوفرية وبلطجية»، وغيرها من الأوصاف لكل هذه الشعوب المنهكة من تراكم الظلم.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
ونحن أيضاً نقول: «لقد خنقتم أحلامنا» *
08-06-2020