قضى العالم الأعوام الثلاثين الأخيرة محاولا إعادة تعريف مفهوم "الأمن القومي" بطرق من شأنها مساعدة الدول القومية في الاستعداد لمواجهة ومعالجة نطاق أكبر من التهديدات المحدقة بوجودنا ورفاهيتنا، لكن بدلا من ذلك، وجدنا الأمن القومي يقارن ويُربط "بالأمن الإنساني"، في محاولة متجددة لتركيز المال والجهد على المخاطر التي تهدد البشرية مثل قدر تهديدها للسيادة القومية.

لكن تلك الجهود فشلت فشلا ذريعا، وقد حان الوقت لنحاول تجربة نهج جديد، فبدلا من توسيع تعريفنا للأمن القومي، ينبغي الشروع في تضييقه، بمعنى تمييز الأمن القومي من الأمن العالمي ووضع الأمن العسكري في مكانه المناسب بجانب الأولويات الأخرى الكثيرة البارزة التي لها القدر نفسه من الأهمية.

Ad

بداية يجب علينا طرح أربعة أسئلة أساسية: من أو ماذا يستوجب الحماية؟ وما التهديد أو التهديدات الواجب حمايتهم منها؟ ومن المنوط بتقديم الحماية؟ وكيف تُوفر هذه الحماية؟

يتعلق الأمن القومي بشكله التقليدي بحماية الدول القومية من العدوان العسكري، ويعني هذا تحديدا منع أو صد "التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي"، وفقا لما تنص عليه الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.

غير أن الدول القومية تواجه الآن تهديدات أخرى، بما فيها الهجمات الإلكترونية (السيبرانية) والإرهاب، رغم أن مثل تلك الهجمات ترعاها بشكل عام دولة ضد أخرى، أو تهدد سلامة أراضي دولة بعينها أو استقلالها السياسي، ومن ثم ترقى تلك التهديدات فعلا إلى أن تكون مجموعات فرعية من الأمن العسكري. على الجانب الآخر، يشكل تغير المناخ تهديدا وجوديا لدول جزرية كثيرة نتيجة لارتفاع مستويات البحار، كما أنه يُعرض البلدان القاحلة للخطر فعلا بما يسببه هذا التغير من زيادة التصحر وندرة المياه.

فضلا عن ذلك، نجد أنه رغم أن الدول القومية كان لها الغلبة في تحديد هيئة عالم عام 1945 بصورة كاملة تقريبا، هناك تهديدات تتخطى الحدود القومية، تستوجب أن يركز عليها أيضا خبراء الأمن في عصرنا هذا، فبخلاف العدوان العسكري، توجد ظواهر لا تهدد بالضرورة الاستقلال السياسي لدولة بعينها أو سلامة أراضيها، لكنها تُعرض بالتأكيد أمان ورفاهية شعوب العالم للخطر، ومن تلك الظواهر: الإرهاب، والأوبئة، وشبكات الإجرام العالمية، وحملات التضليل، والهجرة غير المنظمة، ونقص الطعام والماء والطاقة.

ولا تقتصر التفرقة بين الأمن القومي والأمن العالمي على جانب المعنى والدلالة، بل تمتد إلى جوهر السؤال الثالث وهو: من المنوط بتقديم الحماية؟ يعتبر الأمن القومي وظيفة الحكومات الوطنية ومجموعة صغيرة نسبيا من الأشخاص المتجانسين داخلها اعتادت أن يكون جل تركيزها على الأمن العسكري، وقد توسعت تلك المؤسسات في السنوات الأخيرة لتضع في حسبانها قضايا كالأمن السيبراني والأمن الصحي والأمن البيئي، وإن ظل اهتمامها بمثل تلك القضايا هامشيا.

في المقابل، يفتح التفكير في الأمن العالمي الباب أمام مشاركة مجموعة أكبر من الأشخاص، بدءا من العمدات والمحافظين المسؤولين بشكل مباشر عن أمان ورفاهية سكان ولاياتهم وأقاليمهم ومدنهم. على سبيل المثال، منذ الهجمات الإرهابية التي استهدفت الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001، بات مسؤولو المدن والولايات الأميركية مشاركين بصورة نشطة في تدابير منع الهجمات المستقبلية والتصدي لها، وأصبحوا مخولين بالتحدث إلى نظرائهم في دول العالم، شأنهم في ذلك شأن الدبلوماسيين الوطنيين أو مسؤولي الدفاع.

بل إن نطاق الأمن العالمي يتسع لمدى أوسع من ذلك يتجاوز المكلفين الرسميين، إذ إن بوسع الرؤساء التنفيذيين والمجموعات المدنية وفاعلي الخير وأساتذة الجامعات ومن نصبوا أنفسهم قادة، على اختلاف أوصافهم، إطلاق حملات للحفاظ على أمننا جميعا، أو الانضمام لمثل تلك الجهود، ولقد أفرزت أزمة "كوفيد-19" حقا أمثلة كثيرة للقيادة الفعالة من مصادر أخرى غير الحكومات الوطنية.

من أمثلة ذلك، على الرغم من استغلال حكومتي الولايات المتحدة الأميركية والصين للجائحة لتصعيد التوترات بينهما، شهدنا تعاون عدد لا يُحصى من الشبكات الدولية من الباحثين والمؤسسات والشركات والأجهزة الحكومية لأجل تطوير علاجات ولقاحات لفيروس "كوفيد-19" دون اهتمام كبير بمسألة الجنسية.

كما أن توسيع المشاركة في جهود الأمن العالمي سيزيد إذابة الحد الفاصل بين الشؤون "الداخلية" و"الدولية" والسياسات، فقد اعتادت الدول النظر إلى قضايا الصحة والبيئة والطاقة والأمن السيبراني والعدالة الجنائية كشؤون داخلية، في حين اعتبر خبراء السياسة الخارجية والأمن مسائل الدفاع والدبلوماسية والتنمية عوالم منفصلة تماما تتعلق بالعلاقات بين الدول والمنظمات الدولية، لكن هذا التمييز سيتلاشى تدريجيا مع الوقت.

من جهة أخرى، ستخلق تلك التحولات فرصا لجلوس مجموعة أكثر تنوعا من الأشخاص على الطاولة عند مناقشة قضايا الأمن العالمي، فرغم محدودية وتدرج التغيرات في مجالات الدفاع التقليدية، نجد زيادة أكبر في عدد النساء والأشخاص الملونين الذين يشغلون مناصب بارزة في حكومات المدن، وفي مجالات مثل الصحة والحماية البيئية التي تشمل العدالة البيئية.

تتمثل القطعة الأخيرة المتبقية من اللغز في كيفية توفير الأمن العالمي، إذ يركز الأمن العسكري بمفهومه التقليدي على الانتصار في نهاية الأمر، لكن الكثير من التهديدات العالمية تتطلب قدرا أكبر من المرونة في المقام الأول، بمعنى أن تكون الأولوية لدعم القدرة على الصمود والتحمل أكثر من إحراز النصر، فحسبما ترى شارون بيرك- المستشارة الرفيعة المستوى في مؤسسة نيو أميركا- يجب أن يكون الهدف بناء الأمن في الداخل أكثر من تدمير الأعداء في الخارج.

بالطبع ستظل لدينا الرغبة في "الانتصار"، إذا كان الانتصار يعني هزيمة فيروس معين، أو إبادة خلية إرهابية أو شبكة معلومات مضللة، لكن طبيعة التهديدات العالمية تعني في جوهرها إمكانية تقليصها، دون القضاء عليها غالبا، بالتالي فإن تسليح الشعوب بوسائل تمكنهم من تحديد المخاطر وتجنبها، وتجاوز الصدمات، والتكيف مع الظروف الجديدة يعد استراتيجية أفضل على المدى الطويل.

لقد بلغ عدد الأميركيين الذين قضوا بسبب جائحة "كوفيد-19" حتى الآن ضعف من ماتوا في حرب فيتنام، لكن تركيز كثير من الزعماء الوطنيين في الولايات المتحدة وغيرها يظل منصبا على التنافس بين القوى الكبرى، حيث يبدون أقل اكتراثا بعدد الوفيات المتنامي الناجم عن الجائحة مقارنة بانشغالهم بتشتيت العامة في الداخل من خلال إلقاء اللوم والاتهامات على الدول الأخرى، لكن دروس هذه الأزمة ستتكشف بشكل أكبر فيما يتعلق بكيفية تفكيرنا في أمننا مستقبلا وتوفير السبل اللازمة لتحقيقه.

سينطبق هذا بشكل أخص على الأجيال الشابة، حيث ترى ألكسندرا ستارك- الباحثة الرفيعة المستوى بمؤسسة نيو أميركا- أن جائحة "كوفيد-19" تماثل هجمات 11 سبتمبر بالنسبة إلى جيلها، فبدلا من الرد العسكري المكثف المضاد للإرهاب الذي تبنته الولايات المتحدة في أعقاب تلك الهجمات، تطالب ألكسندرا باستراتيجية جديدة ضخمة "تتمحور بالأساس حول رفاهية البشر" بإعادة التركيز على صحة البشر ورخائهم وإتاحة الفرص لهم، وهذا هو الأمن الحقيقي في اعتقادي.

* آن ماري سلوتر الرئيسة التنفيذية لمؤسسة أميركا الجديدة (نيو أميركا).

«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»