مؤخرا، أعدت قراءة كل شيء كتبته لمنظمة بروجيكت سنديكيت (Project Syndicate) منذ بداية هذا العام، وتأملت فيه مليا، وقد شد انتباهي تعليقان على وجه الخصوص، في شهر يناير اقترحت أن العالم سيجاهد في عشرينيات القرن الحادي والعشرين لتحقيق المستوى ذاته من النمو الاقتصادي الذي حققه في العقود السابقة، في غياب طفرة جديدة في الإنتاجية.

ثم في فبراير أثنيت على المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو لفوزه بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عن رائعته لعام 2019 «الطفيلي» (Parasite)، وقد خلصت إلى أن هذا الإنجاز كان دليلا آخر على أن النمو الاقتصادي والوطني الذي حققته كوريا الجنوبية كان من أكثر القصص إقناعا وإثارة للاهتمام في جيلي.

Ad

في ذلك الحين، لم أكن أعلم أنه بحلول وقت نشر ذلك التعليق، ستواجه كوريا الجنوبية بالفعل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد - 19)، ففي البداية ساورني القلق من أنني ربما أكون تسرعت بمديحي، ولكن الآن حل شهر يونيو، وقد أصبحت كوريا الجنوبية تحتل مرتبة أقرب إلى القمة على قائمة الدول التي نجحت إلى حد كبير في احتواء الموجة الأولى من الجائحة. الواقع أن جميع البلدان التي سجلت أعلى الدرجات على مؤشرات النمو الاقتصادي المستدام تقريبا تحملت في عموم الأمر الأزمة الحالية بشكل أفضل من غيرها.

ولكن ماذا يعتبر نموا اقتصاديا مستداما؟ في هذا الصدد، سنجد العديد من المؤشرات الجديرة بالثقة، من تلك التي أنتجتها الأمم المتحدة والبنك الدولي إلى التقارير الصادرة عن شركات القطاع الخاص مثل KPMG والمراكز الفكرية البحثية مثل معهد ليغاتوم (Legatum Institute)، وأغلب هذه المؤشرات جاءت مماثلة للتقارير التي أشرفت على إعدادها خلال عملي رئيسا للبحوث وكبيرا لخبراء الاقتصاد في غولدمان ساكس.

بدءا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طورت إدارتي مؤشر نقاط النمو والبيئة لنحو 180 دولة، استنادا إلى ما يقرب من 15 متغيرا مختلفا، من معدلات التضخم والاستثمار إلى تبني التكنولوجيا، والتحصيل العلمي، وسيادة القانون، وقد جرى تجميع آخر تقرير لنقاط النمو والبيئة في عام 2014، ولكن عندما نراجع أحداث الماضي الآن، سنجد أن البلدان التي سجلت أعلى الترتيب في الماضي تسجل الآن أدنى معدلات وفيات بسبب جائحة «كوفيد- 19».

على سبيل المثال، كانت أفضل ثلاث دول أداء في تقرير نقاط النمو والبيئة لعام 2014 هي سنغافورة، وهونغ كونغ، وكوريا الجنوبية، تليها النرويج، وهولندا، وقطر، ونيوزيلندا، ولوكسمبورغ، والدنمارك، وأستراليا، وفي عموم الأمر، تبرز هذه البلدان لتفوقها في الأداء على أغلب الدول الأخرى في الاستجابة لجائحة «كوفيد - 19»، وإذا كان هناك استثناء واحد فهو هولندا، التي لم تتعامل مع الموقف بنجاح كما كان المرء سيتوقع.

على نحو مماثل، بين الدول الغربية الأكثر سكانا التي تشكل مجموعة الدول السبع، كان أداء ألمانيا على مؤشر نقاط النمو والبيئة أعلى بشكل ملحوظ من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، كما كان أداؤها أفضل كثيرا من هذه البلدان في الأشهر القليلة المنصرمة، وبين بلدان مجموعة البريك (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين)، احتلت الصين، التي تحركت بسرعة لتسطيح ثم خفض منحنى الجائحة لديها، مرتبة أعلى من البرازيل وروسيا والهند على مؤشر نقاط النمو والبيئة.

الأمر اللافت للنظر في هذه الملاحظات هو أن مؤشر نقاط النمو والبيئة لم يعبر بشكل مباشر عن الأنظمة الصحية الوطنية. وعلى هذا ففي حين قد يكون الارتباط القوي بالأداء في زمن الجائحة مجرد مصادفة، فإن الاستنتاج الأكثر ترجيحا هو أن مقاييس النمو المستدام التي استخدمناها تؤثر بقوة في جودة النظام الصحي في أي بلد.

على سبيل المثال، أثبت تبني التكنولوجيا كونه عاملا محددا حاسما في طرح بروتوكولات الاختبار والتعقب وتتبع المخالطين في التعامل مع جائحة «كوفيد- 19»، فخلال السنوات الأولى من تجميع نقاط النمو والبيئة، أتذكر أنني فوجئت في البداية إزاء المرتبة العالية التي احتلتها كوريا الجنوبية في ما يتصل بالمكون التكنولوجي من المؤشر، لكنني سرعان ما أدركت أن هذا كان عاملا رئيسا في دفع عجلة النمو الشامل في البلاد بشكل أكثر عموما.

متغير آخر مهم في تحديد نقاط النمو والبيئة يعبر عن مدى المساواة في تقاسم ثمار النمو بين السكان، ولعل هذا ليس بالأمر المستغرب. مرة أخرى، كان أداء البلدان حيث نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي ودخل الأسرة المتوسطة أعلى من غيرها من البلدان أفضل في عموم الأمر خلال الأزمة الحالية.

الأمر لا يخلو من دورس مهمة هنا، وخصوصا لصناع السياسات الذين يعكفون الآن على ابتكار الخطط لإعادة بناء اقتصاداتهم، من الواضح أن العديد من البلدان في احتياج إلى اللحاق بركب الثورة الرقمية وإدخال قدر أعظم من المرونة والقدرة على الصمود على أنظمتها الصحية، ويبدو أن بلدي، المملكة المتحدة، يتعلم الآن هذا الدرس بالطريقة الصعبة، ويأمل المرء أن تدرك وزارة الصحة والصحة العامة في إنكلترا (أو أي شيء قد يحل محلها) الحاجة إلى سبل تشخيص (وغير ذلك من التكنولوجيات) أكثر فعالية وأوسع توافرا.

في عموم الأمر، عندما ينظر صناع السياسات إلى احتياجات بلدانهم من البنية الأساسية، ينبغي لهم أن يسألوا أنفسهم ما الأكثر أهمية، المشاريع الفخمة مثل شبكات السكك الحديدية والمباني الجديدة، أم الاستثمارات الأقل «جاذبية» مثل اتصالات النطاق العريض والتعليم؟ في كل الأحوال، ربما تسببت عمليات الإغلاق نتيجة لجائحة «كوفيد - 19» بالفعل في تغيير سِـمات بعينها في أساليب عملنا وأنماط معيشتنا إلى الأبد.

ربما نشهد زيادة كبيرة في العمل عن بُـعد في اقتصادات ما بعد الجائحة، ومناطق حضرية أقل كثافة سكانية، وما إلى ذلك. ورغم أننا سنظل في احتياج إلى أنظمة نقل محدثة بالكامل، فإننا سنحتاج أيضا إلى المزيد من الطرق لإتاحة الفرص للناس أينما كانوا، وإلا فإن الأداء الاقتصادي في أغلب البلدان سيظل مفتتا وعرضة للمخاطر الدورية، فلا يرقى أبدا إلى المستوى الذي كان سيرتفع إليه لولا ذلك.

* جيم أونيل

* رئيس مجلس إدارة غولدمان ساكس لإدارة الأصول سابقا، ووزير خزانة المملكة المتحدة الأسبق، وحاليا رئيس تشاتام هاوس (المعهد الملكي للشؤون الدولية).

«بروجيكت سنديكيت، 2020»

بالاتفاق مع «الجريدة»