ثمة انطباع غير دقيق، أو على الأقل بحاجة إلى مزيد من البحث والتدقيق لدى متخذي القرار في الكويت والعديد من دول الخليج، أن الإصلاحات الاقتصادية تتطلب إجراءات قاسية تجاه الشرائح ذات الدخول المتوسطة والمحدودة في المجتمع.ومع أن الإجراءات الاقتصادية القاسية عادة ما يتم اتخاذها في العديد من البلدان، التي تتعرض لأزمات اقتصادية خانقة، ويتحمل فاتورتها أكبر الشرائح في المجتمع، كما حدث في الارجنتين واليونان، بكل ما تتسبب فيه من اعراض جانبية؛ تأتي على شكل ازمات اجتماعية وسياسية عميقة، فإن هذه الاجراءات تبدو أكثر انحرافا عند تنفيذها في دول الخليج والكويت كمثال منها، فالدول سالفة الذكر لدى مجتمعاتها، على الأقل، هامش أكبر من المشاركة في رسم السياسات، وبالتالي فإن اعتماد الإجراءات القاسية كحلول اقتصادية أمر غير مضمون نجاحه في الكثير من الدول.
فمع اعلان مجلس الوزراء، الاسبوع الماضي، توصياته لإصلاحات ومقترحات تمويل الميزانية وخفض ميزانية الجهات الحكومية للسنة المالية 2021/2020، بحد أدنى 20 في المئة، إضافة إلى إعادة دراسة أسعار السلع والخدمات العامة وقيمة الدعومات، مع توقعات بأن يبلغ العجز المالي هذا العام حدود 14 مليار دينار، فإن خطة التقليص والتقشف تُحمّل -كما ورد في مختلف الخطط الحكومية السابقة- شرائح المجتمع الاقل دخلا والاضعف تمثيلا في اتخاذ القرار مسؤوليةَ التدهور في المالية العامة، وهو ما كان لافتا في وثيقة الاصلاح الاقتصادي والمالي عام 2016، وووثيقة استدامة عام 2018، التي نتج عنها رفع اسعار البنزين في البلاد على جميع المستهلكين شركات وأفراداً!
طريق طويل
وفي الحقيقة فإن ثمة طريق طويل من الاجراءات بين تنفيذ اجراءات التقشف وتحميل اصحاب الدخول المنخفضة كلفة هذا التقشف من خلال مس شبكة الامان الاجتماعي، فعلى المدى القصير تحفل ميزانية الدولة الحالية بأوجه هدر متكررة، كالمصروفات الخاصة والسرية، وتكاليف والمؤتمرات والضيافة والدورات التدريبية، والمبالغة في العلاج بالخارج والتأمين الصحي التي تكلف كلها الدولة نحو 1.5 مليار دينار سنويا، وايضا مراجعة المصروفات خارج الميزانية، لاسيما الصفقات العسكرية، الى جانب ضرورة اعادة الدعوم كي تكون بالفعل لمستحقيها عبر تمييز الدعم الموجه للمستهلكين الافراد بشكل عام عن الدعم الموجه للقطاعات الاقتصادية، فضلاً عن اعادة تنظيم معايير املاك الدولة والاراضي الصناعية بحيث تكون مدخلا لتنويع الايرادات العامة غير النفطية، من خلال اسعار ايجارية عادلة للدولة من ناحية، ومنطلقا لتوفير فرص استثمارية للشباب الكويتي، عبر منحها للمستثمر المباشر المتفرغ لتشغيلها دون المرور بسلسلة التأجير بالباطن التي تهضم حق الدولة في الايرادات وترفع اسعار السلع على المستهلكين.هذا إلى جانب أن الخطة قصيرة المدى لمراجعة اوضاع المالية العامة تتطلب من مجلس الوزراء حسم مسألة توريد الأرباح المحتجزة من مؤسسة البترول الكويتية او غيرها من الجهات للمالية العامة، كإجراء دفاعي، قبل التوسع في الاقتراض من بوابة الدين السيادي.سياسات أطول
أما على المدى الطويل فلا خيار غير اتخاذ اجراءات من شأنها معالجة اختلالات الاقتصاد العميقة، أهمها فرض ضريبة الاعمال على مختلف أوجه الانشطة الاستثمارية والتجارية والاقتصادية، بالتزامن مع خلق الدولة لبيئة محفزة كصانع سوق للفرص والمستثمرين، وأن تعاد هيكلة الإنفاق على المشاريع، بحيث تكون الاولوية لمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، عوضا عن الانفاق على المناقصات العامة، وان يكون رفع نسبة تقييم كفاءة القطاع الخاص في الناتج المحلي الاجمالي مرتبطا بما يقدمه القطاع الخاص من فرص عمل للعمالة الوطنية، وإيرادات ضريبية للدولة، فضلاً عن التعامل مع ازمة التركيبة السكانية، باعتبار تجارة الاقامات والبشر من الظواهر الانسانية والاقتصادية الخطيرة، التي تستنزف سمعة الكويت قبل اموالها.مقترحات منحرفةفرعي
ومهما كانت خطط مواجهة آثار "كورونا" على الاقتصاد جدية، فإن ثمة تحديات ستواجه اي حكومة، حتى لو عزمت فعلا على الاصلاح الاقتصادي الشامل، فالتركيز على القرارات غير الشعبية كحل لتجاوز تداعيات "كورونا" فيه انحراف في التعامل مع المشكلات التي يعانيها الاقتصاد الكويتي تاريخيا، والتي تظهر نتائجها واضحة كلما تراجعت أسعار النفط العالمية، فالقرارات بغض النظر يجب أن تعالج أصل الخلل، وهو عدم وجود أي اقتصاد مساند يوفر للدولة عوائد وفرص عمل وتكنولوجيا وخبرات واستثمارات تقيها تقلبات سوق النفط وأزماته الصادمة، لذلك فإن مقترحات طالما قدمتها، في فترات سابقة، جهات استشارات معظمها أجنبية، تمس شبكة الامان الاجتماعي مثل خفض دعم المواد التموينية او إلغاء مجانية التعليم الجامعي أو خفض القرض الإسكاني وبدل الايجار او تقنين فاتورة الرعاية الاجتماعية- كلها حلول منحرفة عن اصل المشكلة، وتحمّل المجتمع مسؤولية سياسات لم يكن له اي دور في رسمها.منذ تراجعت اسعار النفط بشكل حاد في منتصف عام 2014 لم تتمكن اي حكومة، رغم العديد من الدراسات واللجان والتكاليفات، إلا من اتخاذ قرار واحد لم تثبت حتى فائدته على الميزانية، وهو رفع أسعار البنزين على المستهلكين عام 2016، في حين كان ارتفاع اسعار النفط في كل فترة فرصة لتراجع خطاب الاصلاح ومدخلا لتعظيم الانفاق، لدرجة ان معدّي الميزانية لم يتمكنوا من الحفاظ على سقف الانفاق المقرر بـ 3 سنوات، سوى اشهر قليلة من بداية التنفيذ!