يندر أن يركز محللو القضايا الدولية على كيفية رسم الأحداث الداخلية في الولايات المتحدة لدور ونفوذ ذلك البلد في شؤون العالم، أما اليوم فقد اختلفت الصورة تماماً، وتجدر الإشارة الى أن الولايات المتحدة تواجه ثلاث ثورات في آن معاً، وهي انتشار وباء كورونا المستجد، والهزات الارتدادية لتلك الحالة الطارئة، والاحتجاجات السياسية التي عمت البلاد وتحولت في البعض الحالات الى أعمال عنف نجمت عن مقطع مصور لرجل شرطة في مينيابوليس يضغط بركبته على عنق أميركي من أصول إفريقية يدعى جورج فلويد– 46 عاماً– حتى فارق الحياة.

ومما لا شك فيه أن تلك اللحظات ستؤثر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي ظلت طوال الـ 75 سنة من القرن الماضي القوة الأبرز في العالم، وفي حقيقة الأمر فإن التطورات الأخيرة في ذلك البلد قد تسفر عن تأثيرات عميقة وطويلة الأجل على النفوذ الأميركي، وما لم تتمكن الولايات المتحدة من التماسك والعمل في جبهة موحدة من أجل التغلب على الانقسامات الداخلية والسياسية المتصاعدة فإن الاحتمالات العالمية للديمقراطية قد تضعف وربما يعمد حلفاء وأصدقاء واشنطن الى إعادة التفكير في قرارهم المتعلق بوضع أمنهم في يد الأميركيين كما أن الدول المنافسة قد تتخلى عن حذرها التقليدي في التعامل مع واشنطن.

Ad

صورة الولايات المتحدة

وتجدر الإشارة إلى أن صورة الولايات المتحدة اليوم يمكن أن تضخم القوة الأميركية في الخارج أو أن تقلل من شأنها وتصرف النظر عنها، وتعتبر السياسة الخارجية بصورة عامة حلبة تزخر بالاستشارات والمفاوضات والبلاغات والقمم وغير ذلك من الصور، ومن خلال المثل تطرح الولايات المتحدة قيمها ورسائلها الى ممثليها لتخبرهم بما يتعين عليهم القيام به، وفي بعض الأوقات وقفت الولايات المتحدة على شكل نموذج يحتذى.

بالنسبة الى دول كانت تطالب بمساءلة قادتها، وفي أوقات أخرى فشلت في الارتقاء الى مستوى مثلها العليا ومن ثم فقد قوضت دعوتها الى دول أخرى لمعاملة مواطنيها بشكل أفضل.

واليوم يستمع العالم ويشاهد الأعمال الجارية في الولايات المتحدة والتي تمثل صورة جلية لقسوة الشرطة، وإذا كان ثمة درس يمكن استيعابه من انتشار وباء كورونا فهو أن ما بدأ في ووهان الصينية لم يستمر هناك، وأن مقتل جورج فلويد في مينيابوليس لم يستمر في تأثيره وتداعياته هناك فقط، والمقارنة بين الوضع الراهن وبين الولايات المتحدة في عام 1968 تبرز الفارق الكبير لأن الحالة اليوم أكثر خطورة ولكن الحكمة التي طرحتها تلك السنة تظل صالحة وهي أن «العالم كله يراقب».

ومن أجل إثبات تلك النظرة شهدنا مسيرات احتجاج غاضبة تهتف ضد العنصرية ووحشية الشرطة، وقد شملت تلك المظاهرات كل السفارات الأميركية في أوروبا وأماكن أخرى من العالم ولكن السياق الذي أبرزته يستحق التوضيح، وقد تراجعت الثقة في النموذج الأميركي منذ سنوات وأسفر ذلك عن انقسامات سياسية طويلة وعجز في داخل الولايات المتحدة، وتمثل ذلك في العنف المتعلق بحيازة الأسلحة التي لا يسمح بها أي مجتمع آخر وسوء الإدارة المالية الذي أفضى الى صعوبات حادة تبلورت في الأزمة المالية العالمية في عام 2008، إضافة الى ازدياد عدم المساواة وضعف البنية التحتية في الداخل الأميركي، والأكثر من ذلك أن الرئيس دونالد ترامب قد أثبت أنه رجل مثير للجدل، وفي الكثير من الحالات يفتقر الى دعم شعبي في الخارج كما في داخل الولايات المتحدة.

الاستجابة الأميركية

في غضون ذلك عززت الاستجابة الأميركية حول انتشار وباء «كوفيد- 19» الشكوك إزاء كفاءة وأهلية الولايات المتحدة لمواجهة الأزمات، وأسفر ذلك عن وفاة أكثر من 100 ألف شخص وملايين الإصابات وعن مسار أميركي لا يريد أحد أن يسلكه.

وتجدر الإشارة الى أن صورة الولايات المتحدة كانت تعتبر إيجابية من منظور خارجي، حيث تزخر بجامعات ممتازة وشركات إبداع وابتكار وتقليد واسع من الانفتاح على المهاجرين على الرغم من أن هذه السمة أصبحت موضع شك في الفترات الأخيرة، وقد أظهر انتخاب باراك اوباما للرئاسة في عام 2008 ثم إعادة انتخابه في 2012 تراجع العنصرية الى حد كبير في الولايات المتحدة، كما كانت المكاسب التي تحققت في المجتمع المدني وحقوق المرأة وغير ذلك مثل حركات المثليين مصدراً للإلهام في مناطق أخرى من العالم، وأظهرت محاولة إدانة الرئيس ترامب أيضاً عدم وجود أحد فوق القانون، أما اليوم فإن صورة الولايات المتحدة كما كانت في عهد الرئيس رونالد ريغان «دولة مشعة على تلة» قد تبددت في نظر العالم الى حد كبير.

ومع تراجع تلك الصورة تراجعت أيضاً قدرة واشنطن على تقديم نفسها على شكل نموذج بالنسبة الى الدول الأخرى كي تحذو حذوها اضافة الى قدرتها على انتقاد فشل دول أخرى أو الضغط عليها من أجل إجراء خطوات إصلاحية، وتشير الأدلة الى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ كان في موقف دفاعي في الداخل بسبب الاستجابة الضعيفة على انتشار وباء كورونا ولكن الأداء الأميركي الضعيف أسهم في إنقاذه كما أحبط محاولة واشنطن اتخاذ موقف متشدد من بكين بسبب الوباء.

الأزمة السياسية الراهنة

والأكثر من ذلك أن الأزمة السياسية الحالية عرقلت أيضاً إمكانات الولايات المتحدة إزاء تحسين وحماية الديمقراطيات في الخارج، وكانت حقوق الإنسان وتحسين الديمقراطية منذ زمن طويل الأسس التي تقوم عليها السياسة الخارجية الأميركية لأن واشنطن تظن أن الأنظمة الديمقراطية تجعل العالم أقل عنفاً، واليوم تتراجع الخطوات الديمقراطية حول العالم كما تضعف قدرة الولايات المتحدة على منع ذلك التردي، ويتضح ذلك من خلال المثل الصيني حيث تجاهلت بكين انتقادات واشنطن بشأن هونغ كونغ، وأشارت الى ما يحدث في الداخل الأميركي وتصرفات ادارة ترامب.

وكان ما حدث في واشنطن عشية يوم الاثنين الأول من شهر يونيو الجاري نتيجة طبيعية تؤكد ما تهدف اليه الادارة الأميركية، فقد تم تفريق مسيرة سلمية قبالة البيت الأبيض ليس لأنها تشكل تهديداً للنظام بل لهدف سياسي محدد، وقد جعل البيت الأبيض الوضع أكثر سوءاً عندما نشر قوات الحرس الوطني في العاصمة واشنطن، ومعروف أن الدستور الأميركي يحمي حق حرية الكلام والديمقراطية ولكن الصور التي ظهرت في تلك الليلة انتقلت الى مختلف أنحاء العالم وهي تشكل سابقة خطيرة بالنسبة الى المواطن الأميركي قبل خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية.

تراجع القوة

يثير الغليان الذي اجتاح الولايات المتحدة أمام نظر العالم أسئلة حول القوة الأميركية كما يتطلب التمييز بين القوة المطلقة والقوة المتاحة، ولا تزال القوة المطلقة في البلاد- لا سيما القوة العسكرية والاقتصادية- عالية ولكن السؤال الأكثر أهمية يتعلق بالقوة المتاحة، وهل تستطيع دولة أن تؤدي دوراً مؤثراً على المسرح الدولي وهي تعاني من وجود 42 مليون عاطل عن العمل وهبوط في الناتج المحلي الاجمالي واغلاق للمعامل وانتشار واسع لموجات احتجاج تتحول في بعض الأوقات الى عنف حاد وانقسامات داخلية عميقة؟

والجواب عن تلك الأسئلة كلها ليس واضحاً على الإطلاق، ولا تتكون القوة المتاحة من أدوات حربية واقتصادية فقط، بل من القدرة والإرادة أيضاً على استخدامها- ويشكل هذا الإجراء النقطة الأكثر حساسية بالنسبة الى الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وكان التوجه الأميركي نحو الداخل قد ازداد بعد تخطي الولايات المتحدة حدودها في أفغانستان والعراق، وهي تواجه اليوم صراعاً داخلياً مخيفاً قد يبدد معظم شهيتها للتدخل في الخارج، وربما يرحب البعض ذين انتقدوا خطوات الإدارات الأميركية خلال العقدين الماضيين بهذا التحول نحو الداخل.

وربما ينعكس هذا الوضع الجديد في الولايات المتحدة على دوائر صنع القرار في دول أخرى ويتمثل مكمن الخطر في أن الخصوم سيرون في أميركا ضعيفة ومنشغلة بمتاعب داخلية فرصة للتحرك واستغلال الوضع الجديد، وهذا ما حدث فعلاً، فقد تصرفت الصين بطريقة عدوانية نحو هونغ كونغ واشتبكت على الحدود مع الهند وتايوان، كما أن روسيا اعترضت السفن والطائرات الأميركية، وتستمر كوريا الشمالية في توسيع ترسانتها النووية، وتقوم ايران بانتهاك الاتفاق النووي الذي تم التوصل اليه في عام 2015.

وتجدر الاشارة الى أن هذه الانتهازية بدأت تزداد في الآونة الأخيرة، وذلك في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من منظمات دولية وفشل واشنطن في دعم التحالفات الأميركية وما يتردد عن عزم ادارة ترامب الانسحاب من أفغانستان حتى مع عدم التوصل الى سلام هناك.

اللحظة الخطرة

من هنا يمكن القول إن هذه لحظة خطيرة لأن الوضع في عالم اليوم يتردى بعد ثلاثة عقود من نهاية الحرب الباردة إضافة الى التحديات التي تصدر عن روسيا والصين وقوى أخرى مثل إيران وكوريا الشمالية، والأكثر من ذلك أن هذه المخاوف تترادف مع أجندة أمنية جديدة تشمل الجماعات الإرهابية الواسعة الانتشار وتغير المناخ وانتشار الأوبئة بصورة خطيرة تهدد البشرية.

*ريتشارد هاس