أدّت طريقة تعامل أنقرة مع تفشي وباء «كوفيد-19» إلى وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موقف متخلف عن الآخرين، وكشفت أيضاً عن منافسة بين مستشاري قصره الرئاسي (المعروف بالسراي باللغة التركية) في أنقرة، وفي الوقت نفسه، قام رؤساء بلديات المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة، المنتمون إلى جبهة المعارضة والمنتخَبون حديثاً، بإطلاق مبادرات شعبية لمكافحة هذا الوباء العالمي، مما أتاح لهؤلاء السياسيين الظهور بدور أصحاب الحلول في الدولة.

وبلغ عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد في تركيا حتى 16 أبريل أكثر من 74.000 شخص وتم تسجيل 1.643 حالة وفاة، وبفضل تطوّر خدمات الرعاية الصحية في عهد أردوغان، بلغ معدل الوفيات بوباء «كوفيد-19» في تركيا نحو 2%، وهي نسبة مشابهة لتلك المسجلة في ألمانيا، وبينما لم يتجلَّ بعدُ تأثير «كوفيد-19» على تركيا بشكل عام، تُعتبر معدلات الوفيات متدنية نوعاً ما في الوقت الراهن، مقارنةً بالدول الأخرى التي تضررت بشدة من الوباء، على غرار إيطاليا، حيث توفي نحو 12 في المئة من المصابين.

Ad

لكن الوباء لا يزال يتفشى في تركيا، ففي حين تفوّقت المعارضة على الحكومة من ناحية التدابير الاجتماعية الهادفة إلى الوقاية من انتقال العدوى بمرض «كوفيد-19»، أضف إلى ذلك أن أنقرة لم تُعلن بعد حزمة إغاثة شاملة لمساعدة المواطنين الذين خسروا وظائفهم أو يُحتمل أن يخسروها بسبب الحجر المنزلي.

مع تفشّي المرض، سنحت أمام السياسيين الصاعدين، أمثال رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش- وكلاهما عضو في «حزب الشعب الجمهوري» المعارض- فرصة تولي دفة القيادة، وسارت في طليعة الجهود الاجتماعية لمكافحة الوباء بلدياتُ اسطنبول وأنقرة وغيرها من البلديات التي يديرها «حزب الشعب الجمهوري» كإزمير وإسكي شهر، فأطلقت حملات جمع التبرعات وشجعت المواطنين على وضع الأقنعة في الخارج ودعت إلى حظر التجول في جميع أنحاء البلاد.

وفي كل واحدة من هذه الحالات، رفض القصر الرئاسي لأردوغان اعتماد التدابير المطروحة في البداية، ليعود لاحقاً ويتبنّى تدابير مماثلة، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بحملات جمع التبرعات التي أطلقها إماما أوغلو ويافاش في 30 مايو، عمد القصر الرئاسي إلى حظر هذه الحملات، ليعود في وقت لاحق من اليوم نفسه ويتبنّى مبادرته الخاصة لجمع التبرعات.

وبالرغم من الدعوات التي أطلقها رؤساء البلديات لتطبيق تدابير الحجر، تأخّر رد الحكومة المركزية ولم يتّخذ «السراي» الرئاسي سوى خطوات بطيئة وتدريجية، فعلى سبيل المثال، فرضت الحكومة حظر تجول جزئي على الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً في 22 مارس، ثم على الأشخاص دون العشرين من العمر في 3 أبريل، ولم تفرض الحكومة الإغلاق التام في جميع أنحاء البلاد إلا بعد صدور دعوات متكررة من رؤساء البلديات المنتمين إلى جبهة المعارضة، وكان ذلك في العاشر من أبريل ولم يستمر سوى 48 ساعة، إلّا أن هذا القرار خلّف عواقب غير مقصودة، فصدر أمر الإغلاق قبل ساعتين من حظر التجول ودون توجيهات واضحة للمواطنين حول إمكانية الخروج لشراء المواد الأساسية خلال فترة حظر التجول، وبالنتيجة تهافت الناس بالآلاف على المتاجر والمخابز لشراء الطعام، فاحتكّ أحدهم بالآخر وقوّضوا بذلك الغرض نفسه من الإغلاق.

ولا يخفى على أحد أن أردوغان سياسي محنّك فاز بعشرات الانتخابات الوطنية، وهو زعيمٌ نافذ نجح في استلام زمام السياسة التركية، فلماذا إذاً نراه متلكّئاً هذه المرة في الاستجابة لمرض «كوفيد-19»؟ ولماذا تبدو إدارته محتارة بشأن الخطوات التي تأخذها؟

يبدو أن التأخير والحيرة في استجابة حكومة أنقرة للوباء العالمي متجذران جزئياً في قرار أردوغان الأخير بتغيير النظام السياسي لتركيا، من نظام ديمقراطي برلماني إلى نظام رئاسي ذي أسلوب تنفيذي يرأسه هو نفسه، ودخل هذا النظام الجديد حيز التنفيذ في يوليو 2018 بعد أن نال التأييد في استفتاء شعبي فاز به أردوغان بهامش بسيط في أبريل 2017، وفي حين رسّخ هذا النظام الجديد السلطة في يد أردوغان، فقد أدى أيضاً إلى مركزية مفرطة لعملية صنع القرار في أنقرة، تقتصر على مجموعة صغيرة من المستشارين في قصره.

وقبل عام 2018، كان أردوغان يستعين بمجموعة كبيرة من المستشارين والوزراء والوكالات الحكومية لاتخاذ قرارات سليمة تساعده على الفوز بالانتخابات وقيادة تركيا خلال الصعوبات، أما اليوم فأصبح الرئيس محاطاً بمجموعة صغيرة من المعاونين الذين- في ما خلا بعض الاستثناءات- لا يشكلون بديلاً مثالياً عن مؤسسات تركيا المعروفة بكفاءتها وخبرائها المتخصصين، وتم استبعاد شبكة المستشارين السياسيين الذين كان يأتمنهم أردوغان في السابق والذين ساعدوه على الفوز بقرابة 12 دورة انتخابية، وتم استبدالهم بدائرة مقرّبة صغيرة.

في عام 1980، نشر دينس روس مقالة رائدة بعنوان «الحفاظ على التحالف في الاتحاد السوفياتي» تناولت آلية صنع القرار بين النُّخب، وجادل أن عملية صنع القرار انحرفت عن مسارها في الممرات الضيقة للكرملين، وفي كثير من الأحيان، لم يتم اتخاذ القرارات على أساس ما هو الأفضل للبلد أو الحزب، ولكن ما الذي يخدم بشكل أفضل المصالح الضيقة لزمرة ما على حساب أخرى، وهذا الانحراف على وجه التحديد هو المشكلة التي غالباً ما واجهها أردوغان وتركيا منذ تغيّر النظام السياسي عام 2018 مع تركّز السلطة السياسية في «سراي» أنقرة.

بيد أن قرار أردوغان بإلغاء الانتخابات البلدية التي أجريت خلال مارس الماضي بعد فوز إمام أوغلو بفارق ضئيل قدره 13 ألف صوت، كان خطأ فادحاً من جانب أردوغان مثلاً، إذ أشار إلى فشل السياسة الرئاسية، وحتى مع حشد كل موارد الدولة ضده، تمكّن إمام أوغلو من الفوز في الانتخابات المُعادة في يونيو 2019 بفارق ساحق قدره 800,000 صوت، وبذلك، تُعتبر إعادة الانتخابات في إسطنبول خطأً فادحاً وقراراً قائماً على سياسة القصر الرئاسي، ويبدو أن ردّ القصر المشوّش والمتأخر على وباء «كوفيد-19» ما هو إلا دليلٌ آخر على ذلك.

والسبب الثاني الذي يفسّر رد أردوغان البطيء والتدريجي على وباء «كوفيد-19» هو وضع الاقتصاد التركي في الفترة الراهنة، فقد نجح أردوغان بين عامَي 2003 و2015 في تحقيق نمو اقتصادي استثنائي بحيث انتشل العديد من الناس من الفقر وفاز في الانتخابات الواحدة تلو الأخرى، ولكن في عام 2018، دخل الاقتصاد التركي مرحلةً من الركود تجسّدت في فصلَين من دون أي نمو، وإذا بتباطؤ الاقتصاد يضرّ بأردوغان في الانتخابات، وبالنتيجة خسر حزبه «حزب العدالة والتنمية» الانتخابات البلدية في المدن الرئيسة عام 2019.

ويحدّ الوضع الاقتصادي اليوم من الخيارات المتاحة أمام أردوغان للتعامل بقوة أكبر مع تفشي الوباء في تركيا، فهو لم يعلن مثلاً حتى الآن حظر تجول طويل الأمد لأن إدارته تبدو عاجزة عن تأمين حزمة مساعدات اقتصادية شاملة للأعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل، ومع تراجع قيمة الليرة التركية وتزايد الديون الخارجية وتدني احتياطي العملة الأجنبية، كان الاقتصاد التركي أصلاً في حالة متردية قبل ظهور الوباء، وبما أن أردوغان افتقر إلى الأموال اللازمة لإطلاق جهود تحفيزية شاملة، اعتبر على الأرجح في حساباته أن البلد لا يحتمل التداعيات الاقتصادية المترتبة على الإغلاق التام.

وراء الكواليس

إدراكاً منه أنه أصبح متخلفاً عن الآخرين، قرر أردوغان البقاء خلف الكواليس لحماية مكانته، وتحويل أي تداعيات للوباء إلى الأشخاص الآخرين في إدارته، وعوضاً عن بث خطابات الرئيس بصورة منتظمة كما هو معتاد في الأزمات، تعمل حالياً المحطات التلفزيونية التركية، التي تسيطر وتؤثّر عليها الحكومة، على بث مؤتمرات صحافية منتظمة لوزير الصحة فخر الدين قوجة، علماً أن اسمه لم يكن معروفاً نسبياً قبل الوباء. والواقع أن أردوغان لم يُصدر أي تصريح علني خلال الأسبوع الأول من تفشي الجائحة في تركيا، في حين أن طبع قوجة الهادئ ومقاربته العلمية وغير السياسية للموضوع أكسباه تعاطفاً شعبياً واسعاً، ومنذ ذلك الحين، أصبح الوزير يطلّ يومياً للتحدث عن الأزمة في حين غاب أردوغان إلى حدٍّ كبير عن الشاشات.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الأمر غير معتاد في الثقافة السياسية التي ينمّيها أردوغان في تركيا، فالمواطنون الأتراك معتادون على سماع آراء الرئيس مباشرةً حول مختلف القضايا، بدءا من الأمن القومي، ومروراً بمشاريع البنى التحتية، وإلى العادات الغذائية السليمة. وفي الواقع، لم يكن غالبية المواطنين على دراية بأسماء الوزراء- ومن بينهم قوجة- إلى حين تفشي الوباء، وذلك ليس من باب اللامبالاة بل لأنهم يعلمون أن العملية الفعلية لصنع القرار في أنقرة تجري داخل القصر الرئاسي لأردوغان، وبالتالي، تُعتبر معرفة الشعب بمستشاري الرئيس والصحافيين النافذين المرتبطين بالقصر دون تعيين رسمي، أكبر من معرفتهم بوزراء الحكومة.

وتشكل استجابة أنقرة للوباء العالمي حالةً فريدة في إدارة الأزمات وتكشف عن تركّز السلطة في يد رئيس البلاد. ببساطة، إذا استمر فيروس كورونا بالتفشي- مما قد يوجه ضربة شديدة للاقتصاد المريض في البلاد- يستطيع أردوغان أن يحفظ ماء الوجه عبر توجيه إصبع الاتهام إلى قوجة الذي أصبح الواجهة العامة لآلية تعامل الحكومة مع فيروس كورونا.

«عِلم القصر الرئاسي»

هددت هذه الاستراتيجية بنتائج عكسية مع الاستقالة المفاجئة لوزير الداخلية التركي النافذ سليمان صويلو في أبريل، ويُشار إلى أن اسم صويلو مشهورٌ حتى قبل تفشي الوباء- على عكس العديد من الوزراء الآخرين في حكومة أردوغان- في دلالةٍ على نفوذه السياسي باعتباره الوزير الذي يسيطر على كل من الشرطة التركية المنتشرة في جميع أنحاء البلاد وعلى الإدارة العامة أيضاً، وقد أعلن صويلو استقالته على موقع تويتر وتبنّى مسؤولية الإغلاق الذي أعلنته الحكومة في اللحظة الأخيرة لفترة نهاية الأسبوع، والذي دفع الحشود المذعورة إلى المسارعة لشراء المؤن، وسرعان ما رفض أردوغان الاستقالة وطلب من الوزير متابعة مهامه.

وسمحت الرواية التي تم تداولها حول استقالة صويلو بتحويل اللوم على سوء إدارة الحكومة لوباء «كوفيد-19»، لكن قبولها كان سيقوّض في النهاية الاستراتيجية السياسية لأردوغان القائمة على «عدم السماح بسقوط أحدٍ من أعوانه»، وليس من المبالغ القول إنّ «عِلم القصر الرئاسي» أصبح نهجاً جديداً بين المحللين الأتراك.

ولطالما كان صويلو في منافسة صامتة مع صهر أردوغان ووزير ماليته براءت البيرق، وفي حين وافق صويلو على العودة إلى وظيفته بعد ساعات قليلة من عرضه استقالته، إلّا أن المواجهة السريعة بين التكتّلَين كشفت عن توترات داخل القصر الرئاسي، ويبدو حتى الآن أن صويلو هو المنتصر.

لفترة طويلة، مثّل أردوغان الوجه الجديد للتقدم في تركيا، كونه يستنبط دائماً أفكاراً تلقى التأييد، لكن الأمر لم يعد كذلك، فقد تلكّأ قصره في التعامل مع «كوفيد-19»، مكتفياً بالاقتداء بمبادرات جبهة المعارضة، بدءاً من حملات جمع التبرعات وصولاً إلى دعم موظفي قطاع الرعاية الصحية، وأثبت تفشي «كوفيد-19» أن أردوغان لم يعد المحرّك الرئيس للتغيير في تركيا.

ويقف اليوم رؤساء البلديات المنتمين إلى جبهة المعارضة و«حزب الشعب الجمهوري»، وخصوصا إمام أوغلو ويافاش، في طليعة الحملة ضد الوباء العالمي، ويعملون بصورة شبه يومية على اقتراح حلول فعالة وشعبية يعتمدها لاحقاً القصر الرئاسي، وعلى الرغم من أن هؤلاء السياسيين نادراً ما يستطيعون الوصول إلى المنصات الإعلامية السائدة، فإنهم أصبحوا يسيّرون الأخبار المتداولة عن فيروس كورونا من خلال الانتشار الناجح على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هنا يبدو أن إمام أوغلو ويافاش كسبا لقب الفائز في الاستجابة التركية للوباء العالمي.

وصويلو هو فائز آخر: فقد رفع الاستعراض مكانته في الحكومة وفي «حزب العدالة والتنمية»، وفي جميع أنحاء البلاد أيضاً، وستكشف الأيام المقبلة ما إذا كان سيستطيع هؤلاء القادة الحفاظ على مكاسبهم وما إذا كان باستطاعة أردوغان التخطيط لعودته إلى الأضواء، كما فعل في كثير من الأحيان في الماضي.

* سونر چاغاپتاي ودنيز يوكسل