اشتقنا إلى رائحة الحبر والتوزيع والمطابع
أصابه المرض مثل معظم القطاعات، وقطع عنه الأوكسجين الذي كان يتنفس منه ولم يبق له إلا النزر اليسير! أحدهم وممن أمضى سنوات العمر في هذا القطاع يردد أمام أصدقائه ومن يسأله، عالم الطباعة لن يموت! هي كلمة واحدة، الطباعة وهذه ليست مقصورة على جانب واحد، فهناك مجالات واسعة ومتنوعة! ما دامت هناك صناعة ستبقى الطباعة موجودة، لأنها من وجهة نظره جزء من الصناعة! لكن ماذا فعل «كورونا» في هذا القطاع؟ في غياب الأرقام تصبح النسبة هي الأقرب، فهناك تراجع بحوالي 75 في المئة، والسبب الأول يعود إلى الإغلاق والحظر وعلى فترات جزئي مرة وكلي مرة وعزل مناطق مرة أخرى مما يعني تقطيع أوصال خطوط التوزيع! أما السبب الثاني أن الأعمال الطباعية تغيرت وصارت ملحقة بما له علاقة بتجارة «الأونلاين» أي أن الإنتاج أصبح مرتبطاً أكثر بالقطاعين الطبي والغذائي وكل ما له علاقة بهما، والوحيدان اللذان يحركان آلات الطباعة.
تحول قطاع الخدمات إلى «الأونلاين» أجبر الجميع على التعامل معه للحصول على ما يريد، من علبة الكلينكس إلى الصحيفة إلى علبة الزيت ولعبة الأطفال وباكيت الورق، كل تلك الخدمات تمر من بوابة واحدة هي التعامل عبر «الأونلاين»، ومن ثم إيصالها إلى باب المنزل. جزء كبير من إنتاج الطباعة يعتمد على التوزيع، ونحن هنا نتحدث عن البروشورات ودور النشر والصحف والمطبوعات والكتب، هذه الحزمة أصيبت بالسكتة الدماغية بانتظار أن ينحسر الوباء وتعود الدورة الاقتصادية إلى سيرتها الأولى. واقع الطباعة في الكويت ليس على ما يرام والشكوى تسمعها من مديري المطابع والقائمين عليها، هناك مطابع توقفت عن دفع الرواتب لموظفيها، وأخرى أنهت خدمات عدد من عمالتها، وغيرها ينتظر الفرج، لكن المطابع المصنفة فئة (أ) وهي ذات الأحجام الكبيرة من حيث المعدات والمكائن وعدد العاملين وحجم الإنتاج، وهي لا تتعدى الأربعين مطبعة، دارت عجلة إنتاجها إلى التغليف والتعبئة وركزت على تلبية احتياجات مصانع الأغذية والأدوية بالدرجة الأولى. أما ما يتعلق بالطباعة الورقية وبالأخص الكتب والصحف والمطبوعات الأخرى، فهذا النوع من النشاط أصابه الجمود، فلا كتب جديدة ولا إصدارات ولا صحف ورقية، ولا شركات تجارية بمقدورها أن توزع أو تعرض منتجاتها، مما يعني تعطل «الأوفست» وتوقف هديرها! لا شك أن جزءاً كبيراً من مشكلة الطباعة الورقية مرتبط بتوزيع الإنتاج، وعندما نتحدث عن التوزيع، أي الخروج بالمنتج إلى البيت والشارع والمكتب والمؤسسة، فهذا يفترض وجود عمالة بإمكانها التجول ساعة تشاء، وهو أمر لم يكن مسموحاً به، فتحت عنوان «الحفاظ على صحة المجتمع» استدعى إغلاق الحركة فيه والبقاء في المنزل إلى حين!قبل كورونا، أعراض المرض كانت موجودة إنما بصورة أخرى، فرضتها سرعة التكنولوجيا المستخدمة والتغيير الذي أحدثته على صعيد دورة الإنتاج والتسويق والإعلان، ومن قرأ المشهد جيداً استدار باتجاه التغليف والتعبئة واستجاب للتغيير، وذلك بجلب مهارات أو تدريب القديم! في النهاية، الطباعة وقطاعها جزء من دورة صناعية كاملة، انكشف معظمه في أزمة الوباء، فهناك العشرات بل المئات ممن استحصل على ترخيص تجاري وبرأسمال بسيط وماكينة طباعة واحدة وعدد محدود جداً من العمال، وهؤلاء مسجلون تحت قائمة المطابع، سرعان ما يتهاوون، ليبقى صناع المطابع أي «الهوامير»، الذين يشكلون الركيزة الكبرى ويحتسبون كمنشآت صناعية هم في دائرة صنع القرار الذي يتطلب سرعة التكيف مع المستجدات التي فرضت نفسها، ليس على قطاع الطباعة فقط، بل على مستوى العديد من القطاعات في الدولة والمنطقة. إلى أين سيتجه هذا القطاع؟ معظم التقديرات تشير إلى أن الأزمة ستنهي عدداً لا بأس به من أصحاب المطابع «الورقية»، أي محدودة الأثر وذات الأحجام الصغيرة، وتضخ دماء جديدة لدى الكبار، بتنويع الإنتاج، والدخول في قوالب تقنية من شأنها تعزيز العاملين فيه وتأمين مداخيل مالية تغطي الاحتياجات وتدفع بجزء منها بتوظيفها في استثمارات تكنولوجية لم تكن في الحسبان. كان القياس سابقاً ينسحب على السوق اللبناني، لكن الظروف استبدلت الأسواق، فبيروت بنت مجدها على أن تكون «مطبعة العرب» كما أوضح لي النقيب الأسبق لأصحاب المطابع الصديق نزيه كركي، أما في الـ2020 فلم تعد الخبرة والمعرفة والتقنية والمهارات وحدها تكفي لفعل التميز، ولهذا ستتشكل حزمة جديدة من الخدمات الطباعية على ضوء النتائج التي ستسفر عنها أزمة كورونا.