وجهة نظر: داخل السور وخارجه
حين تثار قضايا كبرى في عمقها وأبعادها مثل قضيتي البدون والتجنيس العشوائي السابق، فإنها تعرّي نمط تفكير يفترض بنا أن نكون تجاوزناه تدريجياً بعد مرور عشرات السنين، وتغير الأجيال التي لحقت التطور الجميل والسلس للدولة، ومثلما تم هدم السور وبسط النفوذ كمتطلبات انتقالية للكيان الجديد فكراً وثروةً وجغرافيا، كان المتوقع الانتقال من التفكير الفردي القديم الى التفكير المدني، دون أن يؤدي ذلك الى التضحية بالتاريخ.كان المطلوب استبدال عقلية المجتمع الصغير الى عقلية وطن، واستبدال ثقافة (إنت من ولده) كسؤال حتمي ومنطقي قديم، إلى ثقافة "ما مؤهلك العلمي وماذا باستطاعتك أن تقدم للوطن"، كأسئلة حتمية أيضاً مرتبطة بالمرحلة الجديدة، ومن المهم الملاحظة هنا أن عقلية مؤسسة الحكم كانت خلاقة وواعية، فاستوعبت متغيرات التحول الجديد، وكانت تملك إجابات التساؤلات المطروحة والمتوقع طرحها، لكن المشكلة كانت في الثقافة النخبوية التي لم تستشعر المتغيرات، مما أبقى على التفكير الخائف بفكره وماكينته البشرية.هذا التفكير ضغط باتجاه فكرة سيادية التجنيس ليبعد هذا الملف المهم عن يد القضاء كسلطة احتكام أنيط بها نشر العدل، ووجدت لتكون الملجأ الأساسي في الاختصام، ولعل إثارة ملف التجنيس العشوائي طوال أكثر من خمسين عاماً وإن بدا احتجاجاً على خطوة غير قانونية، لعل ذلك كان لدافعها اللاشعوري بمنع تجنيس البدون أكثر من إثارة ملف التجنيس ذاته، فالتجنيس تم بصورة رسمية ومستحقة تراعي متطلبات التعامل مع الجغرافيا الجديدة، وتستوعب التداخل الاجتماعي بين الكويت وجاراتها والذي كان ضرورياً إعطاؤه صفات محلية لتفكيكه، وقد أدى ذلك إلى استقرارين واضحين سياسي واجتماعي، وكان سيزداد الاستقرار لو تم تجنيس البدون.
عقلية الخوف أوجدت زاوية نظر وهمية عبر السنين كلما سعت الحكومة إلى حل حقيقي لقضية البدون التي لو حُلت لزاد التنوع المجتمعي الإيجابي الذي يضمن ثبات الخصوصية الاجتماعية للمجتمع الكويتي بالصورة القديمة نفسها التي كان سيسعى إليها جميع الكويتيين بكل تقسيماتهم الاجتماعية كمنطقة اجتماعية وسطى تستنقذهم من أزمات التيه الثقافي والتنافس الفئوي، وتوفر لهم المظلة الوطنية التي تضمن الهوية الخاصة للجميع.هذه العقلية التي قاومت القراءات الموضوعية لأزمات المجتمع لا تستوعب فحوى الانتقال إلى دولة ذات مؤسسات، وأن لهذه المؤسسات اختصاصاتها ووظائفها التي تقوم عليها شخصيتها الاعتبارية، وأن التزوير أو تجنيس البدون يجب أن يتم حسمهما بأسرع وقت لمصلحة الكويت كدولة ومجتمع، وأن الحل الوحيد لحسم الملفين الشائكين وبشكل يرضي الجميع هو تمكين القضاء من ممارسة سلطاته والفصل فيهما، وأن ما يقوله القضاء النزيه سيكون القول الفصل الذي يجب أن يرضى به الجميع لأنه سيخدم مدنية الدولة بمؤسساتها المهنية.وأما القول بضرورة سيادة الثقافة الاجتماعية القديمة من أجل الحفاظ على الهوية التاريخية للمجتمع فهي قضية أخرى مختلفة ومنطقية ومستحقة إذا تمت لمصلحة البناء الاجتماعي للدولة فقط، إذ سيكون ذلك ممكناً عبر بسط الثقافة القديمة على أساس أنها ثقافة وطنية دون المساس بالخصوصيات الاجتماعية للفئات الأخرى، خصوصا أن ذلك معمول به في الولايات المتحدة وكندا من تفوق الثقافة الأنجلوسكسونية المستمر وبقائها واجهة وهوية للمجتمع في الدولتين ينصهر فيها الكل تلقائياً ودون حرمان أو توجيه مع توافر ثقافة رديفة للأقليات، واستمرار الهجرات السنوية والتجنيس المستمر للمهاجرين.وقد يكون للحديث بقية.