أكد المستشار في محكمة الاستئناف فارس الفهد أن مبدأ محاسبة القاضي ومخاصمته يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ الاستقلالية، لافتا الى ان هذا المبدأ يعني بمفهومه الشامل عدم تدخل باقي سلطات الدولة في أمور القضاء، باعتباره سلطة دستورية مستقلة عن بقية السلطات وانحصار الوظيفة القضائية بالقضاء.وقال الفهد، في دراسة قانونية بعنوان «استقلال القضاء قبل مخاصمته ما لكم كيف تحكمون»، إن القفز مباشرة إلى محاسبة القاضي قبل توفير الضمانات الكافية لاستقلال القضاء يؤدي إلى إضعاف الثقة بالقضاء، وفيما يلي التفاصيل:
أقر مجلس الأمة في جلسته المنعقدة بتاريخ 17/6/2020 في مداولته الثانية تعديلاً على قانون المرافعات بإضافة باب رابع عنوانه «مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة» يحق بموجبه لأي شخص مخاصمة القاضي والدخول في منازعة شخصية في أحوال معينة، وعُدَّ هذا القانون إنجازاً تاريخياً وتكريساً لنزاهة القضاء. والمتأمل لهذا القانون والظروف التي صاحبت صدوره يستغرب السعي الحثيث والاستعجال غير المبرر لإقراره، وهذه دراسة علمية ولمحة سريعة عن القانون المتعلق بمخاصمة القضاة، وإطلالة سريعة على نشوء نظرية
«مخاصمة القضاء» وتطورها
نشأت نظرية المخاصمة في فرنسا, وقد نظمت دعوى المخاصمة عندما أصدر فرانسوا الأول مرسوماً ملكياً في عام 1540م منح بموجبه الحق برفع دعوى مخاصمة القاضي شخصياً إذا أثيرت «مسؤوليته الشخصية». ومن ثم تتالت القوانين والمراسيم المنظمة لدعوى المخاصمة من قبل المشرع الفرنسي، وقد تأثر المشرع المصري سنة 1949 واقتبس من القانون الفرنسي نظام مخاصمة القضاء بالشكل التقليدي. المشرع الفرنسي بعد سنوات من التطبيق العملي للنظرية التقليدية في «مخاصمة القضاة» وبعد تمحيص ودراسة هذا النوع من الدعاوى وآثارها الإجرائية والقانونية والاجتماعية، وجد أنه من الضروري التخلي هذه النظرية واستبدلها «بدعوى الرجوع»، والتي تكون الدولة مسؤولة عن الأخطاء الشخصية للقضاة، وهو ليس إلا تطبيقاً للقواعد العامة التي يجوز اختصام الدولة في دعوى المخاصمة، وتكون مسؤولة عما يحكم به من التعويضات على القاضي باعتباره تابعاً لها، دون حقها بالرجوع عليه فيما يُقضى عليه من تعويضات، ولا شك أن العدول عن النظرية التقليدية في مخاصمة القضاة «الدعوى الشخصية» يرمي إلى ضمان حسن أداء الوظيفة القضائية بنزع الخوف ودوافع القلق من نفس القضاة حال مباشرة أعمال وظيفتهم، وانها من المبادئ والأفكار الأساسية في التنظيم القضائي التي تتعلق بالنظام العام.وهذا ما أكدت عليه مدونة القيم والسلوك القضائي في القاعدة الثانية منها «يمارس عضو السلطة القضائية مهامه دون إغراء أو ترهيب متجرداً من شوائب الهوى بعيداً عن كل تأثير أو تأثر من غير مفاضلة ولا تحيز لأحد أطراف الخصومة، وينأى بنفسه عن كل ما يخل بواجباته الوظيفية أو بأعراف القضاء».بين الاستقلال والمخاصمة
مما تجدر الإشارة إليه إلى أن مبدأ محاسبة القاضي ومخاصمته يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الاستقلالية، هذا المبدأ الأصيل في النظام القضائي الذي يعني بمفهومه الشامل عدم تدخل باقي سلطات الدولة في أمور القضاء باعتبار القضاء سلطة دستورية مستقلة عن باقي السلطات وانحصار الوظيفة القضائية بالقضاء، وإنّ ترك المشرع البت في المشاريع المتعلقة بهذا العنصر الأصيل، والقفز مباشرة إلى مخاصمة القاضي قبل توفير الضمانات الكافية لاستقلال القضاء يؤدي إلى أضعاف الثقة بالقضاء، وتالياً نزع المشروعية، فكيف يستقيم القول بضرورة مخاصمة القاضي قبل منحه الاستقلال الكامل، فتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم خلل في المنظومة التشريعية.ثم إن إعطاء حق الدولة في الرجوع على القاضي بسبب أخطائه المهنية وتكون خصماً له سوف يؤثر على حيدته واستقلاله وتكون دعوى الرجوع سيفاً مسلطاً عليه وسبباً لإرهابه والتأثير عليه، وتكون تلك الدعاوى خاضعة لتقدير الدولة مما يفقد التوزان التشريعي بين سلطات الدولة وقد يؤدي استخدامه إلى الكيد بالقاضي والإساءة إليه. فالقضاء مهمة مقدسة وخطيرة عليه يرسو الحق ويسود العدل فالقاضي هو أشرف الناس سلوكاً وأكرمهم خلقاً وأرفعهم علماً وأقدرهم كفاءة، وعلى هذه المبادئ قام الدستور الكويتي وأعلى من شأن القضاء فنصّ على أن شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك وضمان للحقوق والحريات.المحاسبة والرقابة ضمانات كافية
القضاة بشر والخطأ وارد منهم، وهم ليسوا فوق المساءلة وليسوا في منأى عن الرقابة وغير محصنين من المحاسبة، فالقاضي وإن كان خاضعاً لسلطان الضمير، وهو المصدر المباشر للالتزامات الأخلاقية في أداء عمله وواجباته، وهو أسمى الضمانات وأعلاها، إلا أن قانون تنظيم القضاء نظم إجراءات محاسبة القاضي على تقصيره وحدّد العقوبات التأديبية التي يجوز توقيعها على القضاة وهي اللوم والعزل، ورتّب إجراءات الدعوى التأديبية وتشكيل المحكمة المختصة في إصدار العقوبة التأديبية وطرق الطعن عليها ، واللافت أن المخالفة محل العقوبة التأديبية هي أشمل وأوسع مما ورد في قانون مخاصمة القضاة التي حصرها في التدليس أو الخطأ المهني الجسيم، بيد أن قانون تنظيم القضاء جعلها في كل ما يقع من القضاة مخالفاً لواجباتهم أو مقتضيات وظائفهم، هذا فضلاً عن جهاز التفتيش القضائي الذي يقوم بتفيش وفحص أعمال القضاة في المحكمة، علاوة على طرق الطعن العادية التي تصوّب الحكم في حالة خطئه أو انحرافه، ولا شك أن هذه الضمانات كفيلة بضمان حسن أداء القضاة واجباتهم ومقتضيات وظائفهم، والهدف منها حماية الوظيفة القضائية، ونأياً بمن يضطلعون بأعبائها عن أن تضل العدالة طريقاً إلى أحكامهم، وأن تهن عزائهم في الدفاع عن الحق والحرية والأعراض والأموال، ولا يجوز لأي جهة أياً كان موقعها أن تفرض ضغوطاً عليهم، أو أن تتدخل في استقلالية قراراتهم، أو أن يكون تسلطها عليهم بالوعد والوعيد حائلاً دون قيامهم بالأمانة والمسؤولية على رسالتهم سواء كان بطريق مباشر أو غير مباشر. فاستعمال ما يسمى بحق مخاصمة القضاة - بصيغته الحالية – يهدد سير العمل في المحاكم، فرجال القضاء لا يمكن أن يطلب منهم أن يقضوا نصف عمرهم في الفصل في القضايا والنصف الآخر في الدفاع عن أنفسهم ضد من يخاصمونهم من المتقاضين مع ما يترتب عليه من اضطرار القضاة المخاصَمين لتوكيل من يتولى الدفاع عنهم، مما يوقعهم في حرج اللجوء إلى محامين قد يكونوا – يوماً - مترافعين أمامهم في قضايا لهم أو لغيرهم، مما يوقعهم فيما يجب إبعادهم عنه. والأنسب فيما لو أراد المشرع أن يزيد في ضمانات نزاهة القضاء أن يأخذ ما أخذت به التشريعات الحديثة ومنها القانون الفرنسي بمنع الرجوع على القاضي بما يصدر منه من أخطاء جسيمة وتدليس وتكون الدولة هي الضامن لهم والمدافع عنهم.المثالب والعيوب التشريعية في القانون محل الدراسة
أضيف كتاب رابع في قانون المرافعات المدينة والتجارية عنوانه «مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة» يضم المواد من 305 حتى 313، والمتأمل في هذا القانون يجد بعض الملاحظات والهفوات التي يجدر الإشارة والتنويه إليها. فالقانون أجاز مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة في حالتي الغش والتدليس، والخطأ المهني الجسيم، ولم يبين حدود هذه المسؤولية ونطاق تطبيقها، فلا إشكال إذا صدر من القاضي الفرد ما يوجب مخاصمته، لكن تثور المشكلة عندما تكون المحكمة ثلاثية أو خماسية فمن تقع عليه المسؤولية؟ ولمن توجه عليه دعوى المخاصمة؟ هل توجه إلى العضو الذي كتب مسودة الحكم؟ أم للقضاة الذين اشتركوا في المداولة ووقعوا على مسودة الحكم؟ أم على رئيس الدائرة الذي وقع نسخة الحكم الأصلية؟ وهل القاضي المناب الذي حل محل القاضي الأصيل يكون مشتركاً معهم في المساءلة؟ وينسحب ذلك أيضاً على أعضاء النيابة العامة، فهل تقع المسؤولية على وكيل النيابة؟ أم على رئيس النيابة الذي أمره؟ أم على النائب العام الذي يستمد جميع أعضاء النيابة العامة سلطاتهم من السلطات المخولة له باعتبارهم وكلاء عنه ويباشرون اختصاصاتهم بموجب الوكالة التي فرضها القانون عليهم؟ والمعلوم – فقهاً وقضاء – أن تصرفات الوكيل تنصرف مباشرة إلى الأصيل باعتباره صاحب الحق الذي يستمد منه الوكيل سلطاته. هذا الإغفال من المشرع يؤدي إلى مشاكل عملية في التطبيق فيمن تثور عليه مسؤولية الغش والتدليس أو الخطأ المهني الجسيم. أضف إلى ذلك أن القانون– محل الدراسة - بيّن أن دعوى المخاصمة تكون بتقرير في إدارة كتاب محكمة الاستئناف ويرفع من المدعي أو وكيله المفوض، وعلى رئيس الكتاب بالمحكمة المختصة عرض تقرير المخاصمة على رئيس المحكمة ويحيل رئيس المحكمة تقرير المخاصمة إلى إحدى دوائر المحكمة، ويحدد رئيس الدائرة التي أحيل إليها التقرير جلسة لنظره، ولفظ المحكمة في العبارتين وردت معرفة بـ «الـ» وهذه يدل بإشارة النص أن إدارة كتاب محكمة الاستئناف ورئيسها هي الجهة التي يرفع لها تقرير المخاصمة، ورئيسها هو الذي يحيل تقرير المخاصمة ويحدد جلسة لنظره في غرفة المشورة، وإذا حكم بقبول دعوى المخاصمة، حدد الحكم جلسة لنظر موضوع المخاصمة، ويكون ذلك أمام دائرة خاصة بمحكمة الاستئناف تؤلف من خمسة من وكلاء محكمة الاستئناف بحسب ترتيب أقدميتهم، فدلت -النصوص بصريح العبارة - أن إدارة كتاب محكمة الاستئناف ورئيس محكمة الاستئناف وغرفة المشورة في محكمة الاستئناف، والدائرة التي تفصل في دعوى المخاصمة هي من محكمة الاستئناف، فكيف يكون الوضع لو كان القاضي المخاصَم يعمل في محكمة التمييز أو المحكمة الدستورية ، وهما بطبيعة الحال محكمة أعلى من محكمة الاستئناف، فالأولى محكمة طعن أعلى، والثانية محكمة خاصة صدر بإنشائها قانون خاص، فهل يجوز للمحكمة الأدنى أن تحاكم عضواً في المحكمة الأعلى؟ وهل المدعي على القاضي المخاصم الذي يعمل في محكمة التمييز أو الدستورية ملزم بإيداع تقرير المخاصمة في إدارة كتاب محكمة الاستئناف؟ بالطبع هذا لا يستقيم مع المنطق والقانون، ولو قيَّد المشرع النص بإضافة عبارة المحكمة التي يتبعها القاضي، ولو جعل تشكيل الدائرة التي تفصل في دعوى المخاصمة مشكلة من أعضاء في محكمة التمييز والاستئناف أو التمييز وحدها، لتلافي هذه الهفوة التشريعية ، كما فعل المشرع – حصيفاً – في قانون تنظيم القضاء في المادة 40 منه عندما تحدث على تشكيل مجلس تأديب القضاة، الذي نصّ على أن «مجلس تأديب القضاة بجميع درجاتهم يشكل من ثلاثة من مستشاري محكمة التمييز واثنين من مستشاري محكمة الاستئناف على ألا يكون من بينهم رئيس أو أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وتكون رئاسة المجلس لأقدم المستشارين». وهل يجوز أن يكون من بين أعضاء الدائرة التي تفصل في دعوى المخاصمة رئيس أو أعضاء مجلس القضاء؟ وهو ما خلا منه القانون محل الدراسة.ومما يتوجب التنويه إليه أن المشرع حين أضاف الكتاب الرابع المعنون «مخاصمة القضاء وأعضاء النيابة العامة» في قانون المرافعات المدنية والتجارية أن يعدل على قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية في المادة 173 منه بإضافة عبارة «والاجراءات المتعلقة بمخاصمته» وعدم إضافة هذه العبارة يخرج قضاة الجنايات عن نطاق هذه المسؤولية، وهذا عيب في القانون – محل الدراسة - إذ جعل المتساوين في المراكز القانونية متفاوتين في المسؤوليات والتبعات القانونية، ويجعل لقضاة الجنايات والجنح ميزة ليست لغيرهم ويعصمهم من المساءلة والمخاصمة، والقاعدة أن الغرم بالغنم. وأخيراً، فإن المشرع في القانون – محل الدراسة - أسبغ حماية خاصة لمحققي الإدارة العامة للتحقيقات حال أنهم يباشرون التحقيق والتصرف في الجنح ومنع القانون مخاصمتهم، وطبيعة عملهم وحصانتهم لا تختلف عن نظرائهم في النيابة العامة لأن النيابة مختصة في الجنايات والجنح الخاصة، وهذا عيب تشريعي وإغفال يصم القانون برمته بالعوار.وإزاء هذه المثالب والعيوب التشريعية في القانون المتعلق بمخاصمة القضاء وأعضاء النيابة العامة، يتعين رده قبل نشره في الجريدة الرسمية، وتلافي هذه الملاحظات التي وردت في هذه الدراسة حتى يكون سليماً من العيب والعوار التشريعي، ومحصناً من الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية.