أكثر أنواع الكراهية هي أن تكره نفسك وعائلتك وربما طائفتك فتكون طائفياً وأنت «تناضل» ضد الطائفية، أن تكون دكتاتوراً مستبداً في الرأي وأنت مع «حرية التعبير»، أن تكون قابلاً لكل البشر، كلهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأديانهم ومعتقداتهم، ولكنك لا تطيق فقط الشيوعيين الملحدين «هذا إذا عرفت أن هناك فرقاً!»، والمسيحيين والمسلمين والروم والموارنة ولا تنسى السنّة أو الشيعة حسب الطريقة التي تصلي بها، كل ذلك رغم أنك لا ديني ولا طائفي ولا هم يحزنون! في جلسة بدأت ناعمة كتلك النسمة التي شاركت المجموعة الصغيرة (لا بد من التباعد الاجتماعي) في تلك البلكونة المتزينة بالأشجار والورود، لم تستمر طويلا حتى دخل الجميع في فتح جرحهم أو ربما جراحهم، وهي متشابهة على تنوع تفاصيلها: التشرد، الهجرة، القمع، انتفاء الكرامة، الظلم، الألم لفقدان الكثير من الأحبة، تلك الذكريات التي رسموها بتجاعيد أيامهم والتي بقيت وحيدة وربما جاءتها قذيفة وقتلتها وهي واقفة، وبما أننا لا نتفق حتى مع أنفسنا، فقد راح الجميع «يدعبس» في بقع الاختلاف لا حل إلا في... يرد الآخر بصوت من يملك كل الحقائق التاريخية والحاضرة والقارئ الدقيق للمستقبل، «أبداً هذا ليس حلا بل هو انهزام أو تنازل»، يفتح ذاك عينية من تحت نظارته وبهدوء يطرح سؤالا بدا منطقيا وقادرا أن يحول الحديث إلى مساحات قد تعمر لا تهدم، ولكن لا حياة هنا فالمدافعون عن تعدد الآراء لا يستطيعون إلا أن يحتكروا الفكرة بل الحقيقة ولا يتوقفون هنا بل يسردون قائمة من الصفات على الآخرين، أما الآخرون فهم من حاول فقط أن يعبر عن رأي يشبه الأول ولكن يختلف بعض الشيء في التفاصيل التي قد تكون أكثر دقة وأقرب للواقع.
هكذا هي تجمعات نساء ورجال الفكر المتقارب! في كثير من مجمعاتنا التي تعيش شيئاً من العبث إن لم يكن كله، هذه البلكونة ليست في مدينة واحدة بل في كل المدن، وإن لم تكن شرفة فهي حديقة أو غرفة معيشة دافئة بحضور يبدو في أول السهرة متجانساً حد التوحد، وما يلبث أن يتحول ذاك الفضاء الناعم إلى شكل من أشكال الحوارات التلفزيونية التي تهوى الصراخ والنعيق وضرب الآخر بالحرف أو حتى الكرسي! هم لا يشاهدون هذه البرامج بل يعتبرونها مسيئة إلى مجتمعاتهم ومثقفيهم ومتعلميهم، بل هي تخلق صوراً نمطية وهي في معظمها لرجال عرب، منهم لو وقفوا أمام المرآة يوما وتمعنوا لربما أدركوا أنهم، بل إننا، كلنا «ذاك الرجل»، هذه استراحتنا الأسبوعية يقول هو، هنا نسترخي في أحضان ذكرياتنا الجميلة، هنا نعيش خارج جلدنا الحالي وبعيدا عن جروحنا التي نحملها كل يوم ونمضي بها الى العمل والمطعم وصالة الرياضة، وحتى الأرصفة المكتظة رغم إعلانات ضرورة التباعد الاجتماعي،ربما هو الوجع الدائم الذي يبحث عن ثغرة ليطل برأسه ويردد «لا أزال هنا» لا تتوهم أن ضحكتك قد محت وجودي، ربما هو ذاك أو ربما الغضب الذي لا يجد له مساحة إلا عبر السوشال ميديا لمن «استطاع إليها سبيلا» قبل أن يشطب التغريدة أو البوست الرقيب «الأخ الأكبر»، حتى هذه لم تعد كما يصورها البعض سماء دون غيوم، وبحراً دون أسوار، وأبوابا ويافطة «خاص ممنوع الدخول»، البحر لم يعد مشاعاً كما كان وليس ملكا للجميع، بل هو للخاصة فقط أو لمن يملك دفع الثمن! ربما كل ذلك وربما أيضا أنه تجسيد لتشوهات أخرى في الشخصية، مثل النرجسية المفرطة أو الاعتقاد بأن الحقيقة والمعرفة خاصة به أو بها، أو هي فقط وبشكل بسيط الإحساس بذاك العجز المميت، العجز الذي لم يبق في يد الفرد منهم ومنا إلا الكلام في الجلسات المسائية الحميمية، هو أن تبقى سنين تردد أن هناك حاجة للتغيير أو أن التغيير قادم لا محالة، وتمضي السنون وتكتشف ربما متأخرا أن النيات والعلم والثقافة والمعرفة كلها لا تكفي وحدها، وأنك قد بعدت وبعدت حد الغربة عن واقعك، في حين لا تزال تتصور أنك هناك في ذاك الشارع الواسع بأشجاره التي تسقط ظلالها على البيوت المصطفة في حي الطبقة الوسطى، لست قادرا على الاعتراف بأن سنين مضت وأنك تناغمت مع واقعك الجديد، وتلونت بلونه في حين لا تزال الصورة في ذهنك عالقة عند ذاك الباب لبيت في حديقة صغيرة كان هناك يوما، قد تكون هنا، عند هذه اللحظة وقفت وتصورت أن الأرض لم ولن تدور إلا حولك. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
تعصب اللا متعصب! *
22-06-2020