بعد أن تسيدت "كورونا" المشهد المعلن في العالم، وتجاوزت الإصابات ثمانية ملايين، وقاربت الوفيات على النصف مليون عالمياً، عادت العنصرية وصار الصراع حولها أكثر تركيزاً، وبمطالبات أكثر وضوحاً. ويختلف هذا الصراع عن سوابقه التقليدية، حيث يفتح حقبة جديدة في مكافحة العنصرية، وهي "ما بعد العنصرية المؤسسية".فمنذ سقوط أبارثايد، نظام جنوب إفريقيا، القلعة الكبرى للعنصرية، تفاءل المتفائلون بأن نهاية العنصرية قد حانت، وأن مجتمعاً جديداً على أنقاضه، في طريقه للولادة، قائماً على المساواة والعدالة، وقبول الأعراق لبعضها، والتعايش المطلق. كان نظام أبارثايد نموذجاً قائماً بذاته، وكان مشابهاً له نظام روديسيا الذي صارت بعد ذلك زيمبابوي. إلا أن الذي سقط كان العنصرية المؤسسية، بقوانينها ونظمها ولوائحها التمييزية. أما العنصرية كممارسة فظلت محفورة في الضمائر والأفكار.
عندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948، وهو يرفض أي شكل من أشكال التمييز، كان عدد أعضاء الأمم المتحدة لا يتجاوز الـ60 دولة، مع نسبة صغيرة جداً من إفريقيا، فعصر التحرر من الاستعمار جاء لاحقاً. كانت دول عديدة تمارس إكراهات العنصرية المؤسسية، بل كانت بريطانيا وفرنسا تسيطران على أكثر من نصف العالم، بموارده وشعوبه، والعنصرية الضاربة في العمق، وكانت أميركا تمنع قانوناً السود حتى من ركوب الباص والجلوس بمقاعد البيض، وحادثة روزا باركس في مونتغمري ألاباما سنة 1953 مشهورة ومعروفة، وبروز حركة الحقوق المدنية، التي اضطلعت بتغيير القوانين والقيود المفروضة على الأقليات والتمييز ضدهم. فكيف صدر الإعلان في تلك الظروف أكثر من كونه مجاملات سياسية.مياه كثيرة مرت تحت الجسر منذ ذلك الحين، وتغيرات أساسية حدثت في طريق إلغاء العنصرية المؤسسية بشكل نهائي، ومن أبرزها التصويت والتعليم المنفصل والعمل والزواج. وشيئاً فشيئاً غيرت الكثير من الدول الغربية من قوانينها التمييزية، لتتسق مع المواثيق الدولية، وتصبح رائدة في الحريات وإنهاء العنصرية المؤسسية. إلا أن ممارسات بعض تلك الدول خارج حدودها كانت داعمة للعنصرية والعنصريين.بعد تقويض أركان نظام أبارثايد، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة تراجعت الأشياء، وأصبح المعلن المتفق عليه هو احترام الإنسان واحترام المواثيق الدولية، لدرجة لم يعد أحد يستطيع الدفاع بشكل سافر عن انتهاكات حقوق الإنسان، ولم تعد العنصرية المؤسسية مقبولة.ملامح الصراع الحالي تجاوزت بمراحل الحادثة التي فجرتها في مقتل جورج فلويد بأميركا، إلى العديد من المجتمعات، من مظاهرات ودعوات إلى مزيد من الجدية في التعامل مع العنصرية. كانت الأنشطة الرياضية، كالعادة من أهم محطات التحرك ضد العنصرية، ففي الدوري الممتاز الإنكليزي مثلاً، أكبر دوري كرة قدم بالعالم، والذي عاد لنشاطه بعد انقطاع 3 أشهر، صار اللاعبون والإداريون يجثون على ركبهم، كرمز ضد العنصرية، كما تمت كتابة "حياة السود مهمة" على فانيلات اللاعبين، الشعار الذي تحول إلى حركة عالمية، والأمثلة غير ذلك كثيرة.الصراع الآن وتوجهاته هو صراع ما بعد زوال العنصرية المؤسسية، والإحباط من أن الممارسات العنصرية أعادت إنتاج نفسها، وهي قائمة بقوة. ومن هنا تأتي أهمية الحراك.
أخر كلام
صراع العنصرية في زمن «كورونا»
22-06-2020