قصة: اليقظة والمنام وشريط الذكريات

نشر في 24-06-2020
آخر تحديث 24-06-2020 | 00:05
لوحة للفنانة التشكيلية أميرة أشكناني
لوحة للفنانة التشكيلية أميرة أشكناني
يقص د. فتحي خلّاف اللحظات العصيبة التي يعانيها الطبيب مع المرضى، لاسيما الذين تكون حالتهم مستقرة لكن فجأة تحدث مضاعفات تودي بحياتهم.
من عينيه وهو يتحدث إليّ، قلبي يحدثني بأن العم علي قد قضى وذهب لملاقاة خالقه، وأنا أيضا حالتي سيئة، فلقد طال مكوثي في العناية المركزة أياما وقد تكون أسابيع لا أعلم تحديدا عددها، وأصبح هذا الأمر الآن لا يهم كثيرا.

أريد أن أغفو قليلا، وبين اليقظة والمنام والحلم وشريط الذكريات رأيت طفلا صغيرا دون الثالثة يبكي بحرقة، لأنه تسبّب في شج رأس طفلة في مثل عمره، دفعها ببراءة وهو يلعب معها على سور البحر، فسقطت من علوّ وشجّ رأسها وانبثق من الجرح دم أحمر قانٍ أفزعه تماما وأرعبه، وأخذ يبكي بلا توقّف وراح والداه ووالدا الطفلة أيضا بعد تضميد جراحها يهدئان من روعه بأن الجرح كان صغيرا ولا يستدعي منه هذا الهلع.

أعقب هذا ظلام وسكون ولا شيء، ثم انبثق في وعيي أو في حلمي صورة طفل في الحادية عشرة من عمره يقبع في سرير مرضه بمستشفى حكومي مصابا بالتهاب «نكروزي» بكتيري بعظمة فخذه، وهم يأخذونه إلى غرفة العمليات وهو في دهشة عارمة وجسارة دونها جسارة محاربي الأساطير حينما وضعوا كمّام الأثير لتخديره، كان معجبا تماما بالأطباء الذين يمرّون عليه، خاصة معاطفهم شديدة النظافة ناصعة البياض ونقاشهم بلغة لا يفهمها، لكنها تبدو له شديدة الجاذبية.

أفقت من غفوتي على ألم قليل من قسطرة البول، لكنّ الأمر لم يكن يستحق كثيرا من الاهتمام، وتطلعت إلى سقف جناح العناية المركزة، وتذكّرت أبي حينما أخبرته برغبتي في الالتحاق بكلية الطب، وقال لي في غير قليل من الجديّة والصرامة: مهنة الطب شديدة الصعوبة، تتطلب سعة صدر وصبرا بالغا في الدراسة والتحصيل العلمي، ثم في رعاية المرضى وخدمتهم، فليكن ما تريد، ولكن عليك أن تلتزم تماما بألا تهين المرضى أو تتعالى عليهم.

أنا: أنت تعرف أخلاقي يا أبي، أنا لا أهين أحدا ولا أتعالى على أحد.

أبي: أنا لا أقصد ما فهمت.

- يا بني أنا أعلم جيدا رقّة مشاعرك وخجلك من سوء الأخلاق، لكنني قصدت بإهانة المرضى المُبالغة في تحديد أجرك عن عملك، والتقاعس عن أداء عملك هذا في كل الظروف، ومهما كانت العواقب والعراقيل، بل والسماح بأدنى درجة من التدليس في طرق العلاج وشرح فوائدها وقيمتها، أو التزوير في القيمة العلمية فيما تقوم به من الوسائل الطبية.

ثم دار حوار...

أنا: أو ليس الطب يا أبي كغيره من المهن يؤدي الطبيب عمله فيؤجر عليه على قدر قيمة العمل والفكر والجهد المبذول فيه؟

أبي: هذا في كل المهن، وفي كل المهن أيضا شيء حسن، هو أن تكون طموحا للحصول على أعلى عائد عن عملك طالما كان متقنا وكاملا ويستحق هذا الأجر، إلا الطب، فلا أجر لك من الفقراء، ولك أجر معقول من الأغنياء، ولكن عملك وأجرك لا ينبغي لهما أبدا أن يتوازيا.

مرّ وقت كثير لا أعرف كم من الساعات أو الأيام، ولا أعلم لماذا خطر على ذهني الآن الطفل مراد، ولا أتذكر حقيقة مرضه، لكنني كنت طبيب امتياز، وكنت أعمل في أجنحة الباطنة، وفي حوالي الواحدة بعد منتصف الليل، اتصلت بي الممرضة المسؤولة عن الجناح لتخبرني بأن والدَي أحد المرضى قد جاءا لزيارة ابنهما في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ويصرّان على رؤيته وهو في أسرّة الجناح العامة، حيث يوجد أكثر من 20 سريرا آخر، مما سوف يسبب إزعاجا للمرضى الآخرين، ويتعارض هذا السلوك مع تعليمات المستشفى وسياستها.

ذهبت إلى الجناح لأجد المسنيّن، رجل وزوجته، وقد حاولا معي بكل الوسائل أن أسمح لهما بزيارة ولدهما الوحيد، وكان مثيرا لدهشتي حضورهما لزيارة وحيدهما المريض في تلك الساعة، كنت غرّا صغيرا قليل الخبرة وفي حماس الشباب، حيث فوارق الأمور واضحة تماما، فالأبيض أبيض والأسود أسود، ولا مجال هنالك للون الرمادي!

وأخذت أشرح لهما أن هذه الزيارة في ذلك الوقت من الليل من شأنها إزعاج المرضى وإيذاؤهم، فانصرفا آسفين باكيين، وفي الفجر مات مراد، وأكون بذلك قد حرمت والديه من رؤيته لآخر مرة وهو على قيد الحياة.

وحملت خطيئة ما فعلته مع والدَي مراد على كتفي حتى الآن، رغم مرور عشرات السنين.

أما أحمد، ويمتد شريط الذكريات، فكان شابا أصيب في حادث سيارة، وأسعف لنا في «الطوارئ»، وقمت مع زملائي من تخصصات الجراحة والعظام بتوقيع الفحص الطبي عليه وعمل فحوص الدم والأشعة، وغيرها مما يلزم في هذه الحالة.

وظهر من كل ما سبق أن الشاب أحمد في حالة عامة جيدة ولا يعاني إلا كسرا بسيطا في قدمه، حيث قام طبيب العظام بعمل اللازم له بوضع القدم في جبيرة، ومن ثم دخوله إلى الجناح، حيث لم يكن هناك أي داع صحي أو علامة مرضية تستدعي دخوله وحدة العناية المركّزة، والغريب في الأمر أن المريض أخذ يردد منذ أن أتى إلى المستشفى أنه سيموت، وأتذكر جيدا كيف حاولت مرارا وتكرارا أن أهدئ من روعه، وأشرح له أنه في حالة جيدة، وأن أثر الحادث عليه بسيط جدا، لكنه ضرب بأقوالي جميعها عرض الحائط، ولم يتوقف عن ترديده أنه سيموت، وبعد 6 ساعات مات أحمد في الجناح، وحملت خطيئة أخرى، فتاه عقلي ومازال بين الحياة والموت وحقيقة هذه الحياة.

ومرت ساعات وربما أيام أو أسابيع أخرى كثيرة، لا أعلم على وجه الدقة، ومازلت راقدا في سرير مرضي، الآن هناك ضوء أبيض ناصع يغزو عقلي ويكاد يملؤه كله، وشاهده زميله من بعيد يرفع سبابته اليمنى إلى أعلى في الهواء، كأنه يشير إلى شيء يراه أمامه، فأسرع إليه فوجد دمعتين كأنهما لؤلؤتين على خديه، وسقطت يده ومات.

حملت خطيئة ما فعلته مع والدي مراد على كتفي حتى الآن.

حملت خطيئة ما فعلته مع والدي مراد على كتفي حتى الآن
back to top