القوى الناعمة... قوة قاصمة!
أكاد أكون متيقّنا أن اليوم الذي قدم فيه المخترع العبقري ورجل الأعمال والمصمم الصناعي والمستثمر الإعلامي ستيف جوبز (1955 - 2011) مؤسس شركة «أبل-Apple» يوم قدم للإنسان اختراعه العظيم: التلفون، النقال الذكي، فإنه انتقل بالبشرية إلى حياة مختلفة وأفق آخر من الوصل الإنساني. ومؤكد أن التلفون الذكي سيكون واحداً من أهم الاختراعات التي أثّرت وغيّرت الكثير في حياة الإنسان وعلى كل المستويات. بحيث أصبح الآن من الصعب على معظم البشر حول العالم مجرد التفكير بالعيش دون تلفون نقال.التلفون الذكي، وثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، حركت قدرة الإنسان الكامنة والهائلة والمدمرة في التعبير عن رأيه بعيداً عن ملاحقة وأذى أي جهة إعلامية أو صحافية، فكل إنسان، سواء كتب اسمه الصريح أو وضع أي رمز له، أصبح يمثل دار إذاعة، ومحطة تلفزيون، وجريدة، ومجلة. وإذا ما أضيف لذلك المنصات الإخبارية التي تعمل على مدار الساعة، وتشمل في بثها جميع دول العالم، فلقد نشأ ما بات يُعرف بـ«القوى الناعمة»، وإذا صح لنا أن نسمي هذه القوى باسم رديف فهي قوى قاصمة.
أكتب مقالي، وأمامي خبران يحملان دلالة كبيرة: أحدهما محلي والآخر دولي، أما الأول فيدور حول إعلان الجمعية الكويتية للدفاع عن المال العام وجمعية المحامين عزمهما إقامة ندوة افتراضية بعنوان «قضية الصندوق الماليزي السيادي وأثرها على اقتصاد الكويت»، فما إن أُعلن ذلك، حتى هبّت وزارة الشؤون الاجتماعية للاعتراض وطالبت بإيقاف الندوة. لكن، ولأن الإعلان وصل إلى شرائح كبيرة من البشر داخل وخارج الكويت، وفي غضون ساعات انبرى عدد كبير من مختلف شرائح المجتمع الكويتي، وعبر منصات التواصل الاجتماعي إلى تبني قضية إقامة المحاضرة، وبما شكل ضغطاً على وزارة الشؤون وأجبرها على الموافقة، بقولها: «شرط الالتزام بالقانون»، وبما يعني بشكل أو بآخر، أن القانون وحده هو الذي بات يستطيع الوقوف بوجه هذه القوى الناعمة، قوى الإعلام وقوى قول كلمة لا يمكن لها أن تبقى محبوسة، وقوى المجاهرة والتعبير عن الرأي بصدق وشجاعة، وأخيراً قوى العصر، واللحظة الإنسانية الراهنة، التي تجبر الصغير والكبير على الخضوع لإرادتها.الخبر الثاني يدور حول صدور كتاب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق «جون بولتن - John Bolton» «الغرفة التي شهدت الأحداث-The Room Where It happened» والتي تحدثت الأخبار / القوى الناعمة عن أنه يحتوي على وصف لمسلكيات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وموقفه من اتخاذ بعض القرارات التي تخص تلميع شخصه استعداداً للانتخابات الأميركية القادمة.وبعيداً عما ستطرحه ندوة «الصندوق الماليزي» في الكويت، وما سيكشف عنه كتاب جون بولتن، فإن الواضح والجلي هو أن القوى الناعمة، الحرف / الكلمة / الجملة / الفقرة / الكتاب أصبحت قوى قادرة على إخافة وهز صورة أعظم رئيس دولة في العالم، مثلما هي قادرة على استنفار وزارة الشؤون الاجتماعية عندنا، وكلا الجهدين: جهد إدارة الرئيس وجهد وزارة الشؤون لم يستطع أن يقف بوجه نعومة الكلمة ونعومة المنصة والكتاب، فمن أين تأتي هذه القوة للكملة؟إن المتابع لمسيرة التاريخ البشري، يستطيع أن يرى بوضوح أن جميع الديانات السماوية جاءت لتحاجج وتقنع الناس بالكلمة والمنطق، وإذا كانت معجزات مختلفة قد رافقت رسل الله، فإن المعجزة الأكبر التي صاحبت رسالة خاتم المرسلين، النبي والرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، جاءت بكتاب، وبما يعني أن معجزة الكتاب هي الأبقى وهي الأعظم وهي الفيصل. وعن الكتاب وبمنطق الكتاب تأتي كلمة الإنسان، وتأتي المحاججة، وتأتي القوة التي لا يمكن الوقوف بوجهها. ففي زمن الانكشاف البشري والتواصل الاجتماعي، ما عاد من قوى تستطيع الوقوف بوجه انتشار الكلمة، وما عاد ممكناً بأي شكل من الأشكال، حبس وكسر كلمة الإنسان ورأيه الحر، ومؤكد أن هذا يعود لسبب بسيط عنوانه الأكبر: عصر الكلمة- عصر الإنسان الضعيف مستعيناً بالقوى الناعمة القاصمة!