نقطة: في خيمة القذافي
أهلاً أهلاً، أظن، وليس كلّ الظن إثماً، أن كل ما جرى ويجري بين دول الخليج كان مبدأه شرارة تطايرت من خيمة القذافي، فهذا الرئيس المجنون الذي كان يحكم بلداً أكبر من مصر مساحةً، وبثراء دول الخليج، وبؤس دول ما تحت خط الفقر، كان يريد أن يحرّر بقية العرب والعالم، وينقذهم من الضياع والتخلّف والرجعية، وهو الذي يقبع منفصلاً عن الواقع وما يجري حوله بعيداً في خيمته الشهيرة تلك، ولم تكن الحالة تستدعي طبيباً نفسياً محنّكاً ليشخّص لنا أن القذافي لم يكن إنساناً سوياً، بقدر حاجتنا ربما إلى طبيب بيطري متواضع لوصف علاج تلك الحالة المستعصية آنذاك، ولولا بروتوكولات السياسة والدبلوماسية بين الدول، والتي تحتّم التعامل معه ومعاملته كرئيس دولة، لما أظنّ زاره أو اجتمع به أحد قطّ من القادة أو المسؤولين في العالمين العربي أو الغربي، لكنّه العُرف الدبلوماسي السائد الذي جرى على أنه إذا حاجتك عند القذافي، قل له يا أيها الأخ القائد.يبدو أن الوصايا العشر الشهيرة، ازدادت واحدة، لا تتكلم أمام القذافي، وتحاول إبهاره، وهذا ما أثبتته التجربة الجارية حالياً، فمهما حاولت إبهار المجنون، فإنه سيرفع السقف عليك ويبهرك بما هو أجنّ مما أقدمتَ عليه، وعندما ظنّ جميع زوار القتيل أن سرّه قد رحل معه، فاجأهم من قبره بتسجيلاته لجميع ما ألقوه من جعبتهم في حضنه، بحيث جعلهم يتمنّون لو أنهم لم يزوروه أصلاً، ويفتحوا جعبتهم له، واحتفظوا بأفكارهم لأنفسهم، لدرجة قد تصبح معها حليمة بولند هي الاستثناء الطاهر الوحيد من حفلات الندم والتبرير المتسارعة.
أهلاً أهلاً، هذا ما ظهر من التسجيلات حتى الآن، ومنها من ينتظر نَحبه، وما فعله "الواد المجنون بتاع ليبيا"، كما أسماه السادات، من تسجيل لحواراته مع ضيوفه هو عين العقل، ومعمول به في أغلب دول العالم من باب الحفظ والتوثيق، غير المعتاد في حالتنا هو خروجها للعلن، وهذا ما لَم يتوقّعه السادة الضيوف الأكارم، وقبل أن يوضحوا، فإنني مقتنع بأن ما ظهر من حديثهم مجزأ ومُحرّف ومبتور، لكن المصيبة ليست بكلامهم الإنشائي وتآمرهم الطفولي مع سيادة العقيد "الجوكر"، بل بشَدّ رحالهم إليه أصلاً واقتناعهم وهم بكامل قواهم العقلية - كما يُفترض - بوجود حلول لقضايا الأمة والعالم لدى العقدة ذاتها، في حين أنه في المقابل كان كل واحد منهم تسبقه الهالات عن قدراته الخارقة بالكشف عن المؤامرات العالمية والدراية ببواطن الأمور، ويُنظّر علينا بتعالٍ وفوقية عن ضرورة الثورة والتمرد، وأنظمة الخليج العميلة والوظيفية، وبقية المصطلحات التي كما اتضح أنهم يحفظونها دون فهم ويرددونها تقية لا إيماناً، فظهر لنا في الفصل الأخير أنّهم مجرّد دُمى "مضحوك" عليها من قبل ملك ملوك إفريقيا لا أكثر، فلا عمق نفع ولا تنظير شفع، ولأنّ حالتهم ميؤوس منها - فمن يصدق القذافي يصدق بابا نويل أيضاً - فلا أؤيد توجيه أية اتهامات لهم بالتآمر أو الخيانة، لا سمح الله، فيكفيهم عار المقابلة في حدّ ذاته، والحديث بجديّة مفرطة مع سيادة الرئيس، لكنّهم بالتأكيد يستحقون المحاكمة عن إحدى التهمتين، الغباء الزائد أو خداع الشعوب، والخيار لهم في تحديد التهمة التي يرونها تليق بهم وبتاريخهم المشرّف.