حرب النكسة في 5 حزيران (يونيو) 1967 تم كنسها من الذاكرة العربية، فقد جاءت المناسبة دون أن يلتفت إليها الإعلام العربي، وبالحياء أشير إليها واستذكرتها الصحافة المصرية. استدعاني أحد الأصدقاء من جيل الخمسينيات وكان متحمساً جداً لفتح هذا "الملف الأسود" والكتابة عنه، طالما أن شهر النكسة لم ينته بعد، والسبب أن هناك أجيالاً من الشباب لا يعرفون شيئا عما حدث وهم مغيبون تماماً، لا تعنيهم المناسبة، في حين أن أبناء جيله صحوا من "الصدمة الموجعة"، وراحوا اليوم يراجعون حقيقة تلك المرحلة، فقد استحضروا الكاتب توفيق الحكيم عندما أصدر روايته المشهورة "عودة الوعي" ليقرؤوا ذاك المشهد بفكر نقدي جديد!
البعض يرى أن يوم الخامس من يونيو 1967 كان نقطة تحول من "الوهم" إلى "الواقع"، فقد عاشته "الجماهير العربية" من المحيط إلى الخليج إلى أن حصدتها العاصفة، كانت القناعة السائدة في حينه أننا "دولة عظمى" لا تنكسر أو تنحني. ومثلما تحولت الكويت وبيروت إلى حديقتين خلفيتين لمشروع القومية العربية، وكانتا بمثابة مرآة تعكس حالة الطوفان من تلك الشعارات، كانت مدن وعواصم "الناصرية" و"البعث" على خط النار والمواجهة. قد تكون المراجعة الآن أشبه بجلد الذات، فالصحوة لم تأخذ مسارات بديلة، بل بقينا في حالة الضرب على الرأس لإخراج "العفاريت"! ولم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، والناظر إلى خريطة "الصراع" العربي– الإسرائيلي أو الفلسطيني- الإسرائيلي سيجد نفسه في القاع، فاللاءات الأربع التي رفعها العرب في مؤتمر الخرطوم بعد النكسة، "لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات، لا استسلام" سقطت، بل الأكثر من ذلك انصياع العرب للصلح مع إسرائيل وطلب السلام معها كما حدث في قمة بيروت العربية عام 2002 الذي أصبح في خبر كان! زد على ذلك أن اتفاق أوسلو بين "عرفات ورابين" عام 1993 تحول إلى قطعة قماش ممزقة، لم يبق منها إلا بضعة أمتار يتحرك فيها موكب محمود عباس وجماعة السلطة في مدينة رام الله! المعروض اليوم عبارة عن "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" ليس لها عاصمة بعدما تم تسييج القدس وتسليمها إلى إسرائيل! كنا نعيش في وهم القومية العربية والأمن القومي العربي، بتنا اليوم نتحارب على قطعة أرض على الحدود بين الجيران بعدما انتقلت هذه الحروب إلى عقر الدار! يروي من عاصروا حرب الـ1967 وكانوا طلابا على مقاعد الدراسة في الكويت أن عدد أيام السنة يقضونها في الشوارع وبالمظاهرات، تأييداً أو استنكاراً، إذ كان الانطباع السائد أن العرب في سبيلهم لرمي "اليهود في البحر"! وهذا من شعارات أحمد الشقيري أول زعيم لمنظمة التحرير الفلسطينية استقر فترة في الكويت وعمل فيها. لم تستغرق الحرب أكثر من يومين كانت كفيلة بتدمير الطيران المصري والتقدم باحتلال أراض عربية من الجولان والضفة الغربية والقدس وغزة وسيناء! خلال أربع وعشرين ساعة هوت الصواريخ وسقط الجدار وأصبحنا مكشوفين تماماً، بعدما كنا ننتظرهم من الغرب جاؤونا من الشرق. أول حرب عربية– إسرائيلية قادها أحمد سعيد من صوت العرب! لتخرج بعدها جماهير يوم 9 و10 يونيو تطالب الرئيس جمال عبدالناصر بالعدول عن الاستقالة! أتذكر أنني كنت أحد الذين خرجوا في ذاك النهار من مبنى مجلة "الحوادث" في بيروت لصاحبها سليم اللوزي، رافعين صورة الزعيم ومتوجهين إلى مبنى السفارة المصرية وسط آلاف البشر الذين ملؤوا شوارع بيروت، يومها لم يطل الأمر، فبعد أسبوع استدار سليم اللوزي بتوجهاته القومية وذهب إلى الضفة الأخرى، أي إلى الغرب ومن يدور في هذا الفلك! النظرة اليوم تغيرت مئة وثمانين درجة، وغالبية الشعوب ومعظم الأنظمة انتقلت إلى مكان آخر للبحث عن طريق أقصر للوصول إلى تل أبيب! والأصوات المرتفعة هذه الأيام تطالب بالمكاشفة والمصارحة، لكنها تصطدم بغياب الطرف الفاعل والداعم لهذا التوجه، صرنا في الصفوف الخلفية، بعدما انفتحت أبواب الحديقة على مصراعيها، ولم يعد هناك ما يسترها أو يمنحها فرصة التجديد للبقاء وسط الأمم والشعوب الحية والطامحة لجعلها في مصاف الدول التي يحسب لها حساب! هل تغير العرب بعد نكسة 5 يونيو 1967؟ نعم لكن إلى الأسوأ؟ صحيح أنهم صحوا متأخرين على المكاشفة وأنهم كانوا يعيشون في عالم من الأوهام، لكنهم للأسف لم يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام! قد لا تجد من يقرأ مقالتك هذه إلا عددا محدودا جداً من الأشخاص، كما جرى الحوار بيني وبين أحد أبناء جيل الخمسينيات وأنا منهم بالطبع، وإن وجدت ذلك تكن قد أصبت الهدف وأوصلت رسالتك؟ جزء كبير من تاريخ العرب يشبه ارتباك الطفل الذي يأكل المعكرونة (السباغتي) بالشوكة والسكين، ففي اللحظة التي يستوعب فيها المواطن العربي مجرى الأحداث، وما حصل فعلياً على الأرض قد يقوده ذلك إلى الجنون! كما أوحت بذلك الكاتبة والصحافية الإنكليزية ليندا بلاندفورد.
مقالات
تم كنسها من الذاكرة العربية
29-06-2020