كيف أخضع الأميركيون خصمهم الأقوى في صناعة التكنولوجيا؟

نشر في 29-06-2020
آخر تحديث 29-06-2020 | 00:00
كيف أخضع الأميركيون خصمهم الأقوى في صناعة التكنولوجيا؟
كيف أخضع الأميركيون خصمهم الأقوى في صناعة التكنولوجيا؟
في ثمانينيات القرن الماضي تورَّطت الولايات المتحدة في حرب ضروس مع أحد أهم حلفائها، هذه الحرب لم تكن حربا عسكرية، بل كانت حربا اقتصادية اصطدمت فيها باليابان، التي كانت تمتلك بذلك الوقت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة.

في ذلك الوقت كانت الصورة المسيطرة على أذهان الرأي العام الأميركي تجاه اليابان، هي أنها الشرير الذي يحاول أن يفعل من خلال الاقتصاد والتكنولوجيا ما لم يستطع فعله بالسلاح في الحرب العالمية الثانية، وهو الاعتقاد الذي عززته التحركات التجارية للشركات اليابانية، التي استحوذت على شركات أميركية، وبسطت سيطرتها على صناعات حساسة في غفلة من الزمن.

من أسفل السلم إلى أعلاه

خلال العقود الثلاثة التالية للحرب العالمية الثانية، احتلت الولايات المتحدة موقع الصدارة في صناعة أشباه الموصلات العالمية، ففي أوائل السبعينيات كانت الشركات الأميركية تمتلك وحدها 60 في المئة من السوق العالمي لأشباه الموصلات، و95 في المئة من السوق المحلي الأميركي، فضلا عن 25 في المئة من السوق الياباني.

لكن بعد مرور ما يقرب من عقد من الزمان، وتحديدا في عام 1982، انخفضت سيطرة الولايات المتحدة على السوق العالمي، لتصل إلى 51 في المئة، فيما ارتفعت حصة الشركات اليابانية إلى 35 في المئة، مقارنة مع نحو 15 في المئة فقط في أوائل السبعينيات.

وبحلول عام 1989، تبدل الحال تماما، بعد أن تمكَّن اليابانيون من السيطرة على 51 في المئة من سوق أشباه الموصلات العالمي، في حين انخفضت الحصة السوقية للشركات الأميركية إلى 35 في المئة فقط، وفق ما أشار إليه تقرير بعنوان "أشباه الموصلات: صناعة استراتيجية في خطر"، تم رفعه إلى الرئيس الأميركي والكونغرس في نوفمبر 1989.

وما عزز من السيطرة اليابانية على السوق العالمي، وعلى السوق الأميركي بالأخص، هو قيام الكثير من المصنعين الأميركيين باستيراد أرقام قياسية من رقائق الذاكرة من اليابان، لتلبية احتياجاتهم الإنتاجية، فعلى سبيل المثال، استحوذت الشركات اليابانية في عام 1985 على 92 في المئة من مبيعات رقائق الذاكرة ذات السعة البالغة 256 كيلوبايت.

الشركات الأميركية تستغيث بحكومتها

وفي محاولة لوقف هذا الزحف الياباني، هرع كبار مُصنعي أشباه الموصلات الأميركيين، وفي مقدمتهم "إنتل"، إلى الحكومة الأميركية، طلبا للمساعدة، وزعمت الشركات الأميركية أنها لكي تصبح قادرة على المنافسة، يجب أن يتم فرض إجراءات حمائية ضد الواردات الأجنبية من أشباه الموصلات، وتحديدا ضد الياباني منها.

وأكدت الشركات الأميركية، أن نظيرتها اليابانية متورطة في ممارسات تجارية غير عادلة، وربما تتلقى الدعم من الحكومة اليابانية. وادعت أن المصنعين اليابانيين يغرقون سوق الرقائق الذكية في الولايات المتحدة والأسواق الأجنبية الأخرى، من خلال بيع منتجاتهم بأقل من تكلفة إنتاجها.

ولم تكتفِ مطالب الشركات الأميركية عند هذا الحد، فبالإضافة إلى التعريفات الجمركية التي طالبوا بفرضها على أشباه الموصلات اليابانية، سعى المنتجون الأميركيون كذلك إلى حث البيت الأبيض على الحصول على ضمانات محددة من طوكيو تسمح لهم بالسيطرة على حصة سوقية معتبرة من السوق الياباني، الذي كان يُعد الأكبر عالميا من حيث استهلاك أشباه الموصلات.

وبناءً على هذه الشكاوى، هددت الحكومة الأميركية نظيرتها اليابانية في عام 1986، باتخاذ إجراءات قانونية ضد الشركات اليابانية العاملة بمجال أشباه الموصلات في السوق الأميركي إذا لم توافق (طوعا) على مجموعة من القيود التجارية.

اليابان لم تملك من أمرها شيئاً

وتحت سيف التهديدات الأميركية، جلست طوكيو على طاولة المفاوضات مع واشنطن في نفس العام، ليتوصل الطرفان إلى اتفاق مدته 5 سنوات تعهدت فيه اليابان بالآتي:

1) مراقبة الشركات اليابانية باستمرار، للتأكد من أنها لا تبيع منتجاتها بأقل من سعر التكلفة.

2) أن يكون للحكومة الأميركية يد في تحديد الأسعار التي ستبيع بها الشركات اليابانية منتجاتها من أشباه الموصلات.

3) المشاركة في الترويج لأشباه الموصلات الأميركية في اليابان، من أجل مساعدة الأميركيين في السيطرة على 10 في المئة على الأقل من السوق الياباني، وإذا لزم الأمر، تجبر طوكيو المصنعين اليابانيين على تقليص إنتاجهم، لخلق نقص يصبح بإمكان الشركات الأميركية ملؤه.

وفي النهاية، أدرك اليابانيون أن عليهم إبقاء أسعارهم مرتفعة، وإلا تعرضوا للانتقام التجاري من الولايات المتحدة. ورغم ذلك، عاد مصنعو الرقائق الذكية الأميركيون ليشتكوا من عدم التزام اليابانيين بالاتفاقية بشكل كامل، مشيرين إلى فشلهم في إحداث أي اختراق بالسوق الياباني.

وردَّت الحكومة اليابانية على هذه الشكوى، من خلال التأكيد على أنها حين وقَّعت الاتفاقية لم تتعهد بتمكين الأميركيين من الوصول إلى الحصة السوقية المتفق عليها من السوق الياباني في تواريخ معينة، بل وعدت بأن تبذل كل ما بوسعها لتعزيز مبيعات أشباه الموصلات الأميركية في اليابان.

لم يعجب الرد مصنعي أشباه الموصلات الأميركيين، لتقوم جمعية أشباه الموصلات الأميركية (SIA) في مارس 1990 بحثِّ مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة على الانتقام من اليابان، غير أن الممثل التجاري امتنع عن اتخاذ أي إجراء ضد اليابان، بعد فشله في العثور على أي دليل يدعم ادعاءات الجمعية.

واستجابة للضغوط الأميركية الرامية إلى الحصول على حصة أكبر من سوق أشباه الموصلات باليابان، أجبرت الحكومة العديد من الشركات اليابانية على شراء الرقائق الذكية الأميركية، وهو ما فعلته بالفعل الكثير من المصنعين اليابانيين، الذين اضطروا حتى لشراء رقائق أميركية لا يحتاجون إليها، وتكديسها دون استخدام في المخازن.

وفي سعيها لتوضيح الصورة بشكل أفضل للأميركيين، الذين كانت تسيطر عليهم العقلية التآمرية، قالت رابطة الصناعات الإلكترونية اليابانية (EIAJ) في بيان لها في عام 1990 إن "انخفاض مستوى مبيعات أشباه الموصلات الأميركية في اليابان سببه ليس حواجز تجارية أو رفضا من المستوردين اليابانيين، بل مجرَّد انعكاس لعوامل السوق ومستوى المنتج الأميركي وأساليب تطويره وتسويقه".

الأميركيون... هل أطلقوا النار على أقدامهم؟

ما لم تنتبه إليه الحكومة الأميركية حين أجبرت اليابانيين على توقيع الاتفاقية في عام 1986، هي أنها ستضر بشكل غير مباشر بالمصنعين الأميركيين، الذين يعتمدون بالفعل على أشباه الموصلات اليابانية، من خلال إجبارهم على دفع أسعار أعلى للرقائق الذكية اليابانية، وهو ما يزيد من تكلفة الإنتاج لديهم.

وكنتيجة للاتفاقية الأميركية اليابانية، كلفت رقائق "ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكية" (DRAM) شركات تصنيع الكمبيوتر الأميركية ما بين 30 و40 في المئة أكثر مما تدفعه الشركات الأوروبية في نفس الرقائق. فعلى سبيل المثال، كانت تكلفة رقاقة الـ DRAM ذات السعة البالغة واحد ميغا بايت تقترب من 3.9 دولارات بأوروبا، فيما بلغ سعر نفس الرقاقة 5 دولارات في الولايات المتحدة.

ودفعت هذه الأسعار المرتفعة شركات تصنيع الكمبيوتر الأميركية إلى مطالبة وزارة التجارة الأميركية بإلغاء الاتفاقية المبرمة مع اليابان، لأنها تجبرهم على شراء أشباه الموصلات اليابانية بأسعار مرتفعة، وهو ما يزيد من تكلفة الإنتاج لديهم، ويضر بقدرتهم التنافسية في مواجهة شركات الكمبيوتر اليابانية التي تسير بخطى ثابتة للسيطرة على سوق تصنيع الكمبيوتر.

ورغم ذلك، كان لمصنعي أشباه الموصلات الأميركيين اليد العليا في التأثير على قرار إدارة "بوش الأب"، والذي قرر تجديد الاتفاقية لخمس سنوات أخرى عقب انتهائها في عام 1991.

وكانت المفاوضات سهلة جدا بالنسبة للأميركيين، وخاصة أن اليابانيين لم تكن لديهم أوراق الضغط الكافية لفرض شروطهم. ما فعلته واشنطن قبل ما يزيد على ثلاثة عقود مع طوكيو هو ما تحاول فعله اليوم إدارة ترامب في مفاوضاتها التجارية مع بكين، غير أن الأخيرة تبدو حتى اللحظة خصما صعب المراس. (أرقام)

back to top