إن زمن هذه الجائحة يمضي بسرعة كبيرة والكلام نفسه ينطبق على معدل العدوى لـ«كوفيد-19» والجهود العلمية غير المسبوقة لإيجاد لقاح كما ينطبق كذلك على التطورات الكبيرة التي تجري حاليا في الاقتصادات المتأثرة بهذه الجائحة، لقد أدى الركود الناتج عن الإغلاق الى وقف النشاط الاقتصادي العالمي تقريبا خلال شهرين فقط، وعليه فإن العودة مجددا الى الانتعاش تحتاج الى إحياء سريع للاقتصادات المحطمة.قد لا يكون الامر بهذه البساطة، فالإيقاف المفاجئ– الذي عادة ما يرتبط بهروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة- يكشف غالبا مشاكل هيكلية متجذرة يمكن أن تعوق الانتعاش الاقتصادي، كما يمكن أيضا أن تشعل تحركات مفاجئة في أسعار الأصول ردا على الكشف عن اختلالات كانت موجودة لفترة طويلة.
إن هذا الكلام ينطبق على الاقتصاد الأميركي المتأثر بالجائحة، فالاستجابة المالية الهجومية لصدمة "كوفيد- 19" لن تمر بدون عواقب خطيرة وبعكس الاعتقاد السائد بأن عجز الميزانية غير مهم بسبب أن الفائدة التي تصل إلى صفر تقريبا ستخفف من أي زيادات في تكاليف خدمة الدين، فإنه في نهاية المطاف لا توجد أموال سحرية أو أشياء تأتي بالمجان، وإن الادخار المحلي الذي انخفض بالفعل يتجه إلى السالب، مما يعني أن من المرجح أن يؤدي ذلك إلى عجز قياسي في الحساب الجاري وانهيار كبير في قيمة الدولار.لا يستطيع أي بلد أن يبدد إمكانية الادخار فيه، والذي يعتبر في نهاية المطاف أساس النمو الاقتصادي الطويل المدى، وهذا الكلام ينطبق حتى على الولايات المتحدة الأميركية التي غالبا ما يتم تجاهل قوانين الاقتصاد فيها تحت ستار "الاستثنائية الأميركية".للأسف لا شيء يستمر للأبد، فأزمة "كوفيد-19" هي ضربة قوية على وجه الخصوص لبلد كان يعمل ولفترة طويلة على هامش محدود جداً من الادخار المتدني.لقد كان صافي معدل الادخار المحلي في أميركا قبل الجائحة 1.4 في المئة فقط من الدخل الوطني، مما يعني تراجع ذلك المعدل الى المستوى المتدني الذي كان عليه في فترة ما بعد الأزمة في أواخر سنة 2011، إن العذر التقليدي أنه لا داعي للقلق فأميركا لا تدّخر أبدا.إن هذا الكلام غير دقيق، فصافي معدل الادخار الوطني كان في المتوسط 7 في المئة خلال 45 سنة امتدت من سنة 1960 إلى 2005، وخلال فترة الستينيات من القرن الماضي التي تعتبر منذ فترة طويلة أقوى فترة من النمو الاقتصادي الأميركي القائم على الإنتاجية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان صافي معدل الادخار في المتوسط 11.5 في المئة.إن التعبير عن هذه الحسابات بالقيمة الصافية ليست تسوية بسيطة، وعلى الرغم من أن الادخار المحلي الإجمالي في الربع الأول من سنة 2020 وصل إلى 17.8 في المئة من الدخل الوطني فإنه كان أيضا أقل بكثير من النسبة الاعتيادية السائدة في الفترة من 1960 الى 2005 وهي 21 في المئة، إلا أن النقص لم يكن حاداً مثل ذلك الذي تم تسجيله بواسطة القياس بصافي النسبة، وهذا يعكس تطورا مقلقا آخر وهو مخزون أميركا الذي عفا عليه الزمن من رأس المال الإنتاجي.وهنا يأتي الدور الذي يؤديه الحساب الجاري والدولار فأميركا التي تفتقد المدخرات وتحتاج للاستثمار والنمو عادة ما تتجه إلى اقتراض المدخرات الفائضة من الخارج مما يؤدي الى حالة مزمنة من العجز في الحساب الجاري، وذلك من أجل اجتذاب رأس المال الأجنبي، وبفضل الامتياز المبالغ به للدولار الأميركي كعملة الاحتياط المهيمنة في العالم فإنه عادة ما يتم تمويل هذا الاقتراض بشروط جذابة للغاية، وغالبا بدون تنازلات تتعلق بسعر الفائدة أو معدل الصرف التي لولا ذلك الامتياز لكانت هناك حاجة لتعويض المستثمرين الأجانب عن المخاطرة.لقد كان ذلك هو الوضع السائد، أما الآن في زمن فيروس كورونا فإنه لم يعد هناك حكمة تقليدية، فقد تحرك الكونغرس الأميركي بسرعة غير مسبوقة لإنقاذ الموقف بعد أن أصبح الاقتصاد في حالة هبوط حر بطريقة غير مسبوقة، ويتوقع مكتب الميزانية في الكونغرس حدوث عجز غير مسبوق في الميزانية الفدرالية يصل بالمعدل الى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020-2021 وعلى الرغم من الجدل السياسي المثير للجدل فإن من المرجح اتخاذ إجراءات مالية إضافية، وكنتيجة لذلك فإن صافي معدل الادخار المحلي سيندفع بشكل أكبر في الاتجاه السلبي، علما أن هذا حصل مرة واحدة فقط في السابق فخلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009 وبعدها مباشرة كان صافي الادخار الوطني بالمعدل هو 1.8 في المئة من الدخل الوطني، وذلك من الربع الثاني من 2008 الى الربع الثاني من 2010 بينما كان عجز الميزانية الفدرالية بالمعدل هو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.إن من الممكن أن يهبط صافي معدل الادخار الوطني في حقبة "كوفيد-19" ليصبح من -5 في المئة إلى -10 في المئة خلال 2 إلى 3 سنوات القادمة، وهذا يعني أن الاقتصاد الأميركي الذي يعاني نقص الادخار اليوم يتجه الى تصفية جزئية كبيرة لصافي الادخار.ومن المرجح أن الضغط غير المسبوق على الادخار المحلي قد يؤدي كذلك الى زيادة حاجة أميركا لفائض رأس المال الأجنبي مما يعني أن العجز في الحساب الجاري سيزيد بشكل حاد، علما أنه منذ سنة 1982 فإن هذا الإجراء العريض المتعلق بالتوازن الخارجي قد سجل عجزاً بمعدل 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن الممكن أن يتجاوز العجز بكثير ذلك العجز القياسي المسجل في الربع الرابع من 2005 وهو 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يطرح أحد أكبر التساؤلات التي تواجهنا: هل سيطالب المستثمرون الأجانب بتنازلات من أجل توفير زيادة كبيرة في رأس المال الأجنبي الذي يحتاجه الاقتصاد الأميركي الذي يفتقد للادخار؟الجواب يعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تستحق الاحتفاظ بامتيازها المبالغ به، وهذا ليس جدلا جديدا، فالجديد فقط هو التسارع الزمني لأزمة كوفيد والحكم قد يأتي عاجلا لا آجلا.فأميركا تقود الجهود لتبني الحمائية وإزالة العولمة وفك الارتباط، وحصتها من احتياطات الصرف الأجنبي العالمية قد هبطت مما يزيد قليلا على 70 في المئة سنة 2000 إلى أقل قليلا من 60 في المئة اليوم، وإن جهود احتواء "كوفيد-19" في أميركا باءت بفشل ذريع، كما أن تاريخ أميركا من العنصرية الممنهجة وعنف الشرطة قد أدى الى موجة غير مسبوقة من الاضطرابات المدنية، وعلى ضوء تلك الأحداث وخصوصا مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى فإن من المنطقي الاستنتاج أن مشاكل الادخار والاختلالات في الحساب الجاري قد تؤدي في نهاية المطاف إلى عواقب قابلة للتنفيذ بالنسبة إلى الدولار أو معدلات الفائدة الأميركية.إلى الحد الذي تتأخر فيه إجراءات التعامل مع التضخم ويحافظ الاحتياطي الفدرالي على موقفه الاستثنائي المتعلق بالسياسة النقدية المتكيفة، فإن الجزء الأكبر من التنازلات يجب أن يحدث من خلال العملة بدلا من أسعار الفائدة، مما يعني أنني أتوقع انخفاضاً بنسبة 35 في المئة في مؤشر الدولار العريض خلال 2 إلى 3 سنوات قادمة.ومثل هذا الانخفاض الضخم في الدولار والذي قد يبدو صادما له سابقة تاريخية، فلقد هبط سعر الصرف الفعال الحقيقي للدولار بنسبة 33 في المئة بين سنتي 1970-1978 و33 في المئة بين 1985 و1988 و28 في المئة خلال الفترة من 2002 إلى 2011، وربما أن "كوفيد-19" انتشر انطلاقا من الصين، ولكن يبدو أن صدمة العملة المرتبطة بكوفيد ستكون بصناعة أميركية.* ستيفن س روش عضو في هيئة التدريس في جامعة يال ومؤلف كتاب "فقدان التوازن: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين".«بروجيكت سنديكيت، 2020" بالاتفاق مع "الجريدة"
مقالات
صدمة كوفيد للدولار
01-07-2020