عدد لا بأس به من أصحاب القلم "والعواميد" في الصحافة العربية يلجؤون إلى استعراض عضلاتهم على القارئ المسكين وإيهامه أن لديهم اتصالات مع شخصيات كبيرة جداً في واشنطن أو باريس أو لندن، يجعلك تؤمن أن معلوماتهم استقوها من مصادر لا يمكنك أن تصل إليها! هؤلاء استمرؤوا هذا الأسلوب ظنا منهم أنه يعطيهم وزنا وقيمة في التحليل السياسي، وبالتالي يزداد عدد قرائهم ومتابعيهم وتتوجه الأنظار نحو شخصهم، هذا النوع يعمل على تمرير رسائل في معظم الأوقات بطريقة أو بأخرى تخدم أصحابها هذا إذا كانت حقيقية! أحياناً كثيرة نقع ضحية هذا الكاتب أو ذاك، ممن لديه أساليب جذابة بالعنوان، وما إن تبدأ بالقراءة حتى يأخذك إلى ما يريد، وفجأة يعطيك جرعة من الثقة، بأن يقول لك مثلا "هذا ما يفكر فيه باحث كبير من مركز أبحاث مهم"، على صلة بدوائر المخابرات الأميركية مثلاً، أو أن مصادر ذات صلة بالـ«كي دورسيه» تعد ورقة عمل بخصوص الموضوع الفلاني، وما إن تنتهي من قراءة الجملة حتى تبدأ الأفكار تراودك عمن يقصده وماذا يريد أن يقول؟ ولمصلحة من؟
قد يكون في الأمر ومن أحد جوانبه شيءٌ من صحة، لكن "الفبركات" المتكررة، والسيناريوهات التي يرسمونها، والتصورات التي يقدمونها غالباً ما تذهب أدراج الرياح، فالأعراف المهنية في الصحافة تقتضي أن يتم التحقق من المعلومة على الأقل من مصدرين اثنين، وهذا ما تعمل به الصحافة الإنكليزية وأحيانا الأميركية، وبالطبع لا علاقة لهذا بالصحافة العربية عموماً، وإن حصل خطأ في معلومة أو قام كاتب أو محرر بتوريط الصحيفة بها، تلجأ إلى الاعتذار، أو يكون الاستغناء عن الكاتب هو الخيار الأمثل. بعيداً عن التقارير الموجهة أو "المدفوعة الثمن" وهي إلى حد كبير مكشوفة للرأي العام ولا تتمتع بالمصداقية أو الثقة، لأنها بمجرد أن تنشرها هذه الصحيفة أو يضع فلان اسمه عليها، يتم تحديد الجهة المرسلة، ما يعنينا ليس هذا النوع من التقارير الصحافية، بل التذاكي على القارئ بتوصيف المصدر بكلمات، تضفي على صاحبها تكبير حجمه وتسويق نفسه بأنه صاحب المعرفة التي لا يطولها أحد سواه! دخلت مرة "كشاهد" على كشف ادعاءات كاتب كان يعمل في الصحافة، وله مؤلفات زاخرة، يقدم نفسه كالمحيط في عالم المعرفة، من الصعب أن تذكر أمامه حادثة إلا ويقول لك، أعرفها قبلك وكتبت عنها وانتقدتها أو مدحتها! المهم أن صاحبنا هذا تعرض إلى اختبار جدي من زميل يجيد المقالب، قام هذا الزميل بكتابة مقال فلسفي، وأورد فيه اسماً على وزن أرسطو طاليس، واخترع عنواناً لكتاب من بنات أفكاره، وعندما اطلع عليه "الجهبذ" قال: "لقد قرأت الكتاب الأسبوع الماضي!"، وتحمس لنشره، وعندما صدرت الصحيفة حمل صاحب المقال الصفحة ودخل إلى مكتبه ليبادره بالقول: "كشفناك يا أستاذ... ليس هناك أحد بهذا الاسم، وأنا قصدت أن أفضح ضحالتك الفكرية، وها أنت أثبت ذلك بنفسك!".التحليل السياسي يبنى على قراءات ومعلومات وبالطبع يتمتع صاحبها بمستوى من العلاقات تجعله على صلة قريبة بالمطبخ السياسي لأصحاب القرار، لكن هؤلاء في النهاية يتركون مسافة بين استنتاجاتهم وبين ما تنامى إلى مسامعهم، ويحتفظون بهامش من عدم زج أنفسهم بتلك السيناريوهات. في الأدبيات الصحافية وفي المجالس الخاصة، تسمع أن فلاناً محسوب على"القصر"، وفلاناً قريب من "الرئاسة"، وآخر يأخذ معلوماته من الوزير الفلاني أو الوكيل الفلاني وما إلى هنالك من مسميات، وهؤلاء وظيفتهم معروفة، وليس فيها ما يؤخذ عليهم، بل هي تعزز تأثير هذا المحرر أو الصحافي وقدرته على التفرد والحصول على المعلومة السياسية وهذا عمل مشروع، إنما أن يتم إخفاء المصدر عندما تستدعي الحاجة لإضفاء الثقة على ما تقدمه من تحليل فذلك يدخل في باب الإثارة والتشويق الهوائي الذي ينتهي مفعوله قبل أن يجف الحبر الذي كتب فيه.
مقالات
يتذاكون على القرَّاء!
02-07-2020