دراسة حالة... ولاية «كيرلا» الهندية ﺇبان الجائحة
ما زلت على قناعة بأن "كورونا" كشف المستور، وأسقط أوراق التوت من مفاصل أغلب الدول، تلك المفاصل التي تخلخل بها فساد ﺇداري ومالي فاستشرى ليصبح هو الأمر الطبيعي والمعتاد، ﺇلى أن أصيبت تلك المفاصل بهشاشة عظام لا يعالجها أمهر الأطباء، فمن يتكلم بالمنطق والحق لا يلقى ﺇلا أذناً من صين وأخرى من عجين، وياليته عجين طازج، بل مخمور نتن لا يصلح للاستهلاك الآدمي البتة. ولكن مازال "كورونا" يقدم لنا نماذج صحية، وﺇلى حدٍ ما، مثالية في تطوير نموذج متكامل للتغلب على الفيروس المستجد، ففي الوقت الذي يستشهد به العالم بأسره بنجاح النموذج الألماني-حكومةً وشعباً- ويقارنه الكل (متخصصين والعامة) بذاك الخاص بالدول العظمى، أو يراقب ظهور موجة ثانية للفيروس في بقعة من بقاع العالم، يحل الظُلم والظلام على النموذج الهندي وعلى بلاد حضارة الألف آلهة مرة أخرى. أخص بهذا الكلام ولاية "كيرلا" الاستوائية الواقعة على ضفاف الساحل الجنوبي من شبه القارة الهندية، فمنذ بداية ﺇعلان تفشي الفيروس على نطاق عالمي واسع، وﺇعلان منظمة الصحة العالمية قدوم جائحة على العالم، استجمعت حكومة كيرلا قواها وسلطت جام تركيزها على أمرين رئيسين، زيادة عدد الأسرّة في المستشفيات المحلية تحسباﹰ لأي أمر طارئ، إضافةً إلى تأمين المؤونة قدر المستطاع للمحتاجين لضمان لقمة العيش للجميع دون الحاجة ﺇلى مقترحات دين عام أو جلسات للصناديق الرأسمالية!!
كما قامت الحكومة المحلية في كيرلا بالاستعداد لعمل مراكز ميدانية ودور رعاية لكورونا يتم بها أخذ المسحات والعينات دون المخالطة مع بقية المرضى في المستشفيات والأصحاء المارة في شوارعها، ورغم الإمكانات المتواضعة لم تستنزف حكومة كيرلا كوادرها الطبية، حيث غلب التنظيم الميداني على أعمالها بشكل ملحوظ يحفظ هيبة النظام الصحي الخاص بها، ولم تبالِ كيرلا بعدد القادمين ﺇليها من شتى بقاع المعمورة، فهي الولاية الأكثر تصديرا للطاقات المهنية على مستوى ثلاث وثلاثين ولاية في الهند خصوصا ﺇلى دول الخليج العربي، ومع مرور الوقت والزمن "الكوروني" أصبح أعداد القادمين ﺇليها بازدياد من أبنائها المهاجرين، دون أي كلل أو ملل (أو تأفؤف) من الحكومة المحلية أو حتى ﺇغلاق المنافذ في وجوههم. تتصدر أيضا كيرلا عددا من المؤشرات الحيوية على مستوى الفرد، وتتفرد بنسبة أمية ضئيلة مقابل 94.5% من نسبة المتعلمين الذين يشكلون غالبية من سكانها مقارنة بـ74% على مستوى الهند كافة، كما تمتاز كيرلا بأعلى متوسط لعمر الفرد من الجنسين بواقع 74 سنة مقارنة بالهند بشكل عام (63 سنة)، ويرجع ذلك مرة أخرى الى نظامها الصحي-التكافلي، الذي أسسته الأحزاب الاشتراكية-الشيوعية الهندية منذ قرابة قرن من الزمان، لتكون هذه الولاية الهندية نموذجاً حياً للنظام الاشتراكي السليم الذي يحارب من أجل عدالة اجتماعية بين صفوف العاملين، ويدشن ﺇنجازات متتالية تتمثل في السالف ذكره. كان لليسار الحر كلمته في الحكومات الهندية منذ عشرينيات القرن الماضي ﺇلى يومنا هذا، ومع تقادم الزمن أصبح هناك من يمثل اليسار في الحكومات الهندية المتتالية وبالأخص في الأقاليم الجنوبية، ليصبح الحزب الحاكم لكيرلا منذ سنة 1957 وﺇلى يومنا هذا هو الحزب الشيوعي الهندي، بعد نضال حقيقي تجسد في حروب انتخابية و"شوارعية" بقيادة رموز الفكر الماركسي في شبه القارة الهندية ومن أبرزهم "إيلام كولام نامودريباد". أتى اليسار بثماره ليُصدر ﺇلى العالم كافة (والكويت خاصة) أمهر الأطباء والممرضين من "كيرلا" اليسارية، وحين هَلّ على العالم فيروس كورونا وفي الوقت الذي تُعقد فيه المؤتمرات الصحافية، وتتم طمأنة الجماهير من خلال الناطق الرسمي لكل جهة صحية، وتقوم الشعوب العربية بعمل ملصقات تهكمية تتناقل عبر تطبيق الواتساب، كانت كيرلا تعمل بصَمت الأموات وتستجمع قواها لمواجهة الفيروس المستجد، وتعول على خبراتها المكتسبة والموثقة في دفاتر الصحة العامة في مواجهة فيروس (نيبا NiV) الذي اجتاح عدة بقاع من العالم، ومن ضمنها الساحل الجنوبي للقارة الهندية. الخلاصة تأتي على صيغة أرقام ونتائج ملموسة، إذ يقطن كيرلا 35 مليون نسمة من أصل مليار وثلاثمئة وخمسين كتعداد سكاني للهند، بمعدل 3726 إصابة للكورونا فقط واثنان وعشرون حالة وفاة (ﺇلى تاريخ 27 يونيو الماضي)، من جهة أخرى فإن أرقام الهند ﺇلى منتصف يونيو كانت ولا تزال مخيفة بمعدل ﺇصابة يفوق الأربعمئة وتسعين ألفا وقرابة الخمسة عشر ألفا من الوفيات. قارن تلك الأرقام بالدول الآسيوية وغرب الآسيوية بنفسك واعلم أن شعار المرحلة في كيرلا كان وما زال "التباعد الجسدي، والتضامن الاجتماعي".