الفريضة الدستورية الغائبة
كثيرة هي الفرص الضائعة وأكثر منها الوسائل اللامفكَّر فيها مع أنها أقرب للنظر من أي شيء قريب، وربما لقربها الشديد فهي متلفِّعة بهذا القُرب عن الانكشاف وكمثال يتفجَّر بالغرابة غياب برنامج العمل الحكومي عن وعي واهتمام المعارضة والقوى السياسية مع أن برنامج العمل نص الدستور بإصرار يتلامح في تفاصيل المادة ٩٨ «تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة، وللمجلس أن يبدي ما يراه من ملاحظات بصدد هذا البرنامج». انظر المادة تقول فور تشكيلها لا على التراخي، بل على الفور مما يؤكد عمق وقوة الإصرار، لذا نصت المذكرة الإيضاحية للدستور، بما يزيد في قوة الإصرار، على: «أوجبت هذه المادة على كل وزارة جديدة أن تتقدم فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة، ولكنها لم تشترط لبقاء الوزارة في الحكم طرح موضوع الثقة بها على المجلس، بل اكتفت بإبداء المجلس ملاحظاته بصدد هذا البرنامج، والمجلس طبعا يناقش البرنامج جملة وتفصيلا، ثم يضع ملاحظاته مكتوبة، ويبلغها رسميا للحكومة، وهي- كمسؤولة في النهاية أمام المجلس– لا بد أن تحل هذه الملاحظات المكان اللائق بها وبالمجلس المذكور».أظن أن المعارضة لو ركَّزت جهودها منذ فجر الحياة البرلمانية على فرض تطبيق هذه المادة من الدستور لكان العمل السياسي مثمراً وذا زخم شعبي، وانسحب البساط من التيارات المؤدلجة العقيمة والتجمعات الانتهازية المدمرة، وكان الصراع مباشرا ومكشوفا مع مراكز النفوذ ومحترفي إعاقة آليات وميكانزمات التنمية الحقيقية، ولكان الوعي الشعبي مؤطراً بعقلانية الأطروحات المتركزة على مطالب حيوية واضحة بسيطة بعيداً عن التنظيرات الملتوية والشعارات الجوفاء،
ولَتَولَّدَ تيار عارم لا يمكن لقوى الفساد مواجهته، ولانفضحت كل الأساليب التي تعوق تحقيق المطالب، وهي مطالب مجتمعية واضحة ترفدها عبقرية الأشخاص المخلصين من ذوي الخبرة والكفاءة.فالتعليم واضحة مطالب إصلاحه وترقيته، والصحة هناك تجارب وأساليب تحلِّق بالمستوى الصحي الى القمة من حيث الوقاية والعلاج بأقل النفقات، وتوفير الإسكان سيكون آية من آيات الإبداع والسرعة في الإنجاز، وقل ذلك عن الأمن والاقتصاد بالقضاء على الخلل الهيكلي في مصادر الدخل، وتشوه بُنية الموازنة، وإفلات القطاع الخاص من واجباته المجتمعية بدفع الضرائب وتوفير فرص العمل، وكل هذا محكوم ومنظم بموجب الدستور بوجود برنامج العمل الحكومي اللامفكَّر فيه طيلة الحياة الدستورية في الكويت.وقد اجتهدت في مقالي الفائت بتفسير تقديم الحكومة برنامج عملها فور تشكيلها للمجلس لنضع القطار على سكة الحديد فتشرع منظمات المجتمع المدني في بناء برنامج العمل وانهمام الوعي الشعبي به، وآثرت في مقالي إظهار معنى فور تشكيلها وما الشروط الموضوعية التي تتطلبها الفورية في بناء وإبداع برنامج العمل على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقلت إن ذلك يتطلب تحرك منظمات المجتمع المدني في السنوات الأربع التي تسبق عمر الحكومة الجديدة لوضع برنامج العمل حسب ما تستجد من قضايا، فتارة يطغى الموضوع الاقتصادي وتارة الاجتماعي وتارك الأمني أو كوكتيل من كل هذه القضايا، فتقوم منظمات المجتمع المدني كأوعية للرأي والاجتهاد بمهنية عالية بإبداع واقتراح برامج العمل بعد أن تشبعه نقاشاً وتقييماً في جو علمي ونقاشي حر، فيكون هذا هو الرحم الطبيعي لولادة برنامج العمل الحكومي الذي تأتي الحكومة والمجلس على خلفيته، فتترشد العملية السياسية طولا وعرضا لأن برنامج العمل سيتضمن تحقيق أهداف محكومة بمعايير كمية وزمنية، وتوجد منظمات محتمع مدني في غاية الاحتراف مع وعي وشعور شعبي ضاغط ومجلس أمة معنيّ بهذا البرنامج ومنشغل بتفاصيله بالدرجة الأولى.هنا تتخلَّق البيئة الصحية للأداء السياسي الراشد للحكومة والبرلمان، وكذلك أداء رقابة الرأي العام، وقبل ذلك ترشيد اختيار أعضاء البرلمان.