أظهر النزاع الحدودي الأخير بين الهند والصين فشل الحلم الروسي في خلق تجمع ثلاثي آسيوي يمكن التعويل عليه، في حين طرحت المواجهة بين نيودلهي وبكين عند خط الرقابة في الهيمالايا أخيراً اختباراً جدياً لسياسة موسكو في القارة الآسيوية، وعلى الرغم من قرب روسيا من بكين، فإن العلاقة بين البلدين لم تتطور إلى مستوى تحالف ثنائي؛ لأن الجانبين حتى مع تعميق تعاونهما العسكري والسياسي، يختلفان في أغلب الأحيان عندما تتعلق الأمور بالأساسيات المحددة، لكن ذلك لا يعني إنكار أن سياسة روسيا كانت تتمحور دائماً حول الاعتماد على الصين. وبخلاف الأيام الزاهية للصداقة الهندية - السوفياتية توجد اليوم مساحة شك أكبر لدى نيودلهي حول إمكانية التعويل على موسكو في حماية الهند.ونظراً لأن الهند والصين من بين الشركاء الاستراتيجيين لموسكو فقد حرصت الأخيرة على اتباع أسلوب حذر جداً في مقاربة نزاعهما الحدودي، ولم يصدر عن مسؤول روسي حتى بداية شهر يونيو الماضي أي تعليق على المواجهة بين الدولتين، بانتظار جلاء الوضع بينهما، وفي الثاني من شهر يونيو الماضي، اجتمع السفير الروسي لدى الهند نيكولاي كوداشوف مع وزير الخارجية الهندي هارش شرينغلا لمناقشة "قضايا رئيسية إقليمية ودولية"، وأعقب ذلك الاجتماع بيان صدر عن السفارة الروسية في نيودلهي يشير إلى عزم البلدين السعي إلى "إيجاد طريق للخروج من الأزمة" بكل السبل الممكنة.
وكانت تصريحات رسمية في موسكو تحدثت عن حرص روسيا على "عدم التدخل في مثل تلك النزاعات مع تشجيع المتخاصمين على إجراء حوار ومنع استخدام القوة".
بعد اندلاع الاشتباكات
لكن بعد الاشتباكات التي اندلعت بين القوات الصينية والهندية في منتصف شهر يونيو الماضي، تحركت موسكو بقوة استثنائية على مختلف الصعد الدبلوماسية. وأعقب ذلك في السابع عشر من يونيو تعليقات صدرت عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والمتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للتعبير عن الأمل في عدم تصعيد الوضع. ومن المفترض أن جزءاً من جهود موسكو الدبلوماسية كان يتم من وراء الستار، وقد ألمحت بعض وسائل الإعلام إلى خطوات سرية من جانب الكرملين لنزع فتيل الأزمة بين الهند والصين، لكن لم تصدر أي تعليقات حول جهود علنية في هذا الصدد، على الرغم من اهتمام موسكو الواضح بتحقيق السلام بين نيودلهي وبكين.ويسود الاعتقاد في موسكو بأن الأمن الإقليمي في أوراسيا يرتبط، إلى حد كبير، بالتفاعلات بين موسكو ونيودلهي وبكين، وبناء على ذلك ينظر إلى هذا الثلاثي أنه منصة رئيسية بالنسبة إلى الكثير من مبادرات السياسة الخارجية الروسية من عدم الانتشار النووي إلى محاربة الإرهاب الدولي وتهريب المخدرات. يضاف إلى ذلك، أيضاً "شراكة موسكو" مع أوراسيا وهي فكرة جيوسياسية طرحها الرئيس فلاديمير بوتين قبل أربع سنوات، وتعتبر هذه الفكرة جزءاً مهماً في العلاقات الإقليمية وحدوث تعثر خطير في العلاقات بين نيودلهي وبكين يعني تعرض رؤية موسكو للشراكة مع أوراسيا إلى نكسة خطيرة أيضاً. ويوجد إجماع على أنه يتعين على موسكو السعي إلى الحفاظ على استقلال ذاتي استراتيجي في عالم اليوم الثنائي القطب، كما يشير تقرير أصدره فريق من العلماء الروس برئاسة البروفسور سيرغي كاراغانوف حول السياسة الخارجية الروسية الى أن السيناريو الحالي يدعو إلى جعل موسكو القائد الجديد في حركة "عدم الانحياز" بالتالي من المحتم أن تتعاون مع الهند من أجل توحيد تلك الحركة.من جهته جادل مدير معهد "كارنيغي روسيا" ديمتري ترينين في معرض حديثه حول منظور إقليمي جديد في ذلك الجزء من العالم في أن "هدف روسيا الاستراتيجي يتمثل بتحسين علاقاتها مع الهند إلى مستوى علاقاتها مع الصين"، لأن مثل تلك العلاقة سوف توفر لموسكو درجة أكبر من التوازن الجيوسياسي اللازم في أوراسيا\، وتؤكد وجهات النظر هذه الفهم المتنامي في موسكو إلى الحاجة لتفاديها الانجرار نحو دور يشبه "الشريك الأصغر" لبكين كما يبرز دور الهند المهم في حسابات الكرملين الجيوسياسية.وقبل عدة أيام من اشتباكات الحدود الهندية ـ الصينية كان موعد اللقاء الثلاثي الحيوي هو 22 يونيو وكان مهماً أن تنظم موسكو عقده في ضوء التوقعات المحتملة بعد قمة "البريكس" التي سوف تستضيفها روسيا في فصل الخريف المقبل بمدينة سانت بطرسبرغ – وأظهرت موافقة وزيري خارجية الهند والصين على الاجتماع وأن موسكو في موقع جيد للقيام بدور شريك مريح بالنسبة إلى الدولتين، لكن على الرغم من ذلك، ثمة شكوك طرحت على مختلف الصعد حول الحصيلة المحتملة لمثل تلك الاجتماعات. ومثل الكثير من المنتديات المتعددة الأطراف يزود لقاء روسيا – الهند – الصين كبار الدبلوماسيين في كل دولة بفرصة إضافية من أجل التعبير عن رؤية بلادهم إزاء سياستها الخارجية ومناقشة الأخطار والقضايا المشتركة. وبعد كل شيء، فإن هدف أي دبلوماسي هو الحديث وطرح نقاط التقاء حتى مع شركاء مراوغين.وبعد المبادرة الروسية في عام 2018 تم عقد المنتدى الثلاثي مرتين على مستوى القادة وفي الحالتين كان على هامش قمة العشرين، وعلى الرغم من استمرار التوتر بين الهند والصين فإن التطورات تشير إلى إمكان عقد اجتماع لزعماء الدول الثلاث وإلى مشاورات مستقلة لوزراء الدفاع فيها في وقت متأخر من هذا العام، وإضافة إلى ذلك، سوف تزيد روسيا والهند والصين تعاملها مع دول آسيان وخصوصاً ما يتعلق بمحاربة وباء كوونا المستجد. وباختصار مهّد ذلك الاجتماع السبيل أمام توسع الحوار وإجراء مزيد من التعاون على مختلف الصعد.وللإشارة، فإن مثل تلك الاجتماعات التي تعقدها روسيا والهند والصين لا تسفر دائماً عن نتائج واضحة وعملية. واليوم ومع تفاقم الشكوك الاستراتيجية في العلاقات الصينية – الهندية فقد أصبحت حصيلة الآلية الثلاثية موضع مزيد من الشك، ثم إن إضافة طبقات جديدة من التفاعل مثل اجتماعات وزراء الدفاع في الدول الثلاث لن تغير بصورة كبيرة من الديناميكية الفعلية داخل المحور الثلاثي.خطوات بناء الثقة
وفي حقيقة الأمر، فإن مشاركات الدول الثلاث المنتظمة ساعدت على بناء الثقة بين الهند والصين. وعلى الرغم من تخوف الهند من مشروع الحزام الصيني ومبادرة الطريق، فإن بكين حرصت على المضي قدماً في ذلك المشروع، كما أن الصين أزعجت الهند من خلال إثارتها قضية كشمير في مجلس الأمن الدولي – ومنذ شهر أغسطس 2019 جرت المشاورات بين الدول الخمس دائمة العضوية حول تلك القضية مرتين وتحت نظر روسيا. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق هو إذا كانت الهند والصين على خلاف دائم حول قضايا إقليمية كيف يمكنهما تحقيق رؤية مشتركة حول نظام عالمي؟ وأكثر من ذلك، حتى مع دعم روسيا للهند للظهور على شكل قوة عالمية، فإن الصين تعرقل هذه الخطوة، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن من غير المنطقي التعويل على قيام تعاون ثلاثي فعال.وكان الفشل سمة ذلك "الثلاثي الاستراتيجي" منذ تأسيسه وحتى الكثير من الخبراء في روسيا شككوا في قدرته على البقاء نظراً لطبيعة العلاقات بين الهند والصين. واضافة الى ذلك رفضت بكين ونيودلهي بشكل أولي فكرة قيام التحالف لعدم رغبتهما في التورط في كتلة معادية للغرب. وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي برزت عوامل تدفع الى تشكيل ذلك التحالف ومن أهمها تصحيح العلاقات الثنائية ثم السعي إلى عالم متعدد الأقطاب. ويوجد اليوم قدر أقل من الرغبة في الوحدة في التحالف نظراً لأن صعود الصين قد ترجم على أنه يهدف الى سياسة هيمنة على آسيا كلها وهو تصور يقوض مواقف الهند كما يهدد بمرور الوقت مصالح روسيا أيضاً.ومن دون النظر إلى المستوى المتدني للتحالف، فإن قرار الهند المضي في حضور المؤتمر الثلاثي وزيارة وزير الدفاع الهندي إلى موسكو يخدم فكرة تطوير العلاقات الهندية الروسية، كما أن مشاركة الوزير في العرض العسكري في الساحة الحمراء على الرغم من التوتر الحاصل على الحدود مع الصين وانتشار وباء كورونا يشير إلى تحسن العلاقات مع موسكو وكان أيضاً موضع تقدير من قبل الكرملين.جدير بالذكر أن موسكو لا تملك خياراً آخر غير دعم الهند وتلبية طلبها في الإسراع بتسليم الأسلحة الروسية إليها في أقرب وقت ممكن. ولكن اعتماد موسكو على بكين سوف يستمر مادامت تواجه ضغوطاً مالية وسياسية من جانب الغرب. وفي الوقت نفسه، حانت الفرصة لموسكو لتحسين علاقاتها مع الهند التي تشكل عنصر توازن جيوسياسي في تلك المنطقة، كما أن من الواضح أن موسكو في حاجة إلى نيودلهي وبكين من أجل تحقيق أجندتها الإقليمية والعالمية.*أليكسي زاخاروف