أثبت الدولار الأميركي قبل بضعة أشهر أنه لايزال الحصان الرابح في أسواق الصرف العالمية مع بداية انتشار وباء كورونا، وتدافع الجميع لحيازته طلباً للأمان والحماية من التقلبات وعدم اليقين.

لكن الورقة الخضراء تعرّضت مؤخراً لهبوط ملحوظ دفع العديد من بنوك الاستثمار لتوقع المزيد من المعاناة لعملة الاحتياط الأولى في العالم بل والحديث عن نهاية عهد «الامتياز الباهظ».

Ad

مشاهد الصعود والهبوط

الدولار مثل أي عملة يتم قياس أدائه نسبة إلى عملة أخرى أو مجموعة من العملات، أي يقال الدولار يرتفع مقابل اليورو أو ينخفض أمام الين، وبالتالي لا وجود لارتفاع مطلق أو هبوط في العموم.

وعندما نتحدث عن الدولار مقابل العملات الرئيسية، فنحن نعني مؤشر الدولار الذي يقيس أداء العملة الخضراء مقابل 6 عملات هي: اليورو، والإسترليني، والين، والفرنك، والدولار الكندي، والكرونة السويدية، مع حقيقة أن وزن العملة الأوروبية الموحدة يمثل أكثر من 57 في المئة من إجمالي المؤشر.

والمؤشر الذي تم استحداثه في عام 1973 عند مستوى 100 نقطة سجل في العشرين من مارس 102.9 لكنه فقد 5 في المئة من قيمته منذ ذلك الوقت.

وكان أحد أبرز أسباب صعود الدولار مع بداية ظهور وحشية وباء «كوفيد-19» في مارس يتمثل في ارتفاع الطلب العالمي الطارئ على العملة الخضراء، وهو ما استدعى عقد بنك الاحتياطي الفدرالي اتفاقات مبادلة للعملة مع عدة بنوك مركزية حول العالم لإمدادها بالورقة الخضراء.

ومن المنطقي أن يرتفع الدولار مع زيادة الطلب العالمي عليه، لكن في المقابل ماذا تتوقع عندما يهدأ هذا النهم؟

يقول سمير جول كبير محللي الاقتصاد الآسيوي في بنك «دويتشه بنك»، إن الدولار قد يتعرض للهبوط أمام نظرائه من عملات الدول المتقدمة مع تراجع الطلب الطارئ على العملة.

وبالفعل أصدر بنك إنكلترا بياناً يعلن فيه اتفاقه مع ثلاثة بنوك مركزية أخرى هي: المركزي الأوروبي، وبنك اليابان، والمركزي السويسري من أجل تقليص عمليات مبادلة العملة مع الاحتياطي الفدرالي إلى ثلاث مرات أسبوعياً بدلاً من العمليات اليومية المنفذة سابقاً بسبب هدوء الطلب وتحسن ظروف التمويل الدولاري.

بينما يرى «غولمان ساكس» أن الدولار مرشح لهبوط أكبر في الفترة المقبلة ربما يصل إلى 20 في المئة من قيمته المسجلة في مارس، على خلفية التعافي الاقتصادي العالمي.

وساهم اليورو، الذي يمتلك وزناً نسبياً ملحوظاً في هبوط مؤشر الدولار مؤخراً، بعد بيانات اقتصادية أظهرت تعافياً يتجاوز التوقعات للنشاط الصناعي والخدمي في منطقة العملة الموحدة خلال يونيو.

كما أن الحزمة التحفيزية لإدارة الرئيس دونالد ترامب والتي قاربت 3 تريليونات دولار، والعجز الحاد المتوقع في الموازنة الفدرالية وتسهيلات الإقراض التي قدمها بنك الاحتياطي الفدرالي تضع ضغوطاً هبوطية على الدولار.

وحتى على الجانب الصحي، تشهد الولايات المتحدة تسارعاً في حالات الإصابة بالفيروس وتتصدر بلا منازع قائمة الدول الأكثر تضرراً من الوباء ما يهدد بوقف أو إبطاء العودة التدريجية لعمل الاقتصاد، بينما على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي تبدو الأمور في القارة العجوز في تحسن نسبي.

وبالتالي يبدو أن الولايات المتحدة، التي دخلت أزمة الوباء بعد نظرائها في أوروبا وآسيا، ستكون بحاجة لمزيد من الوقت للتعافي صحياً واقتصادياً.

كما أوصى «جي بي مورغان تشيس» المستثمرين ببيع الدولار الأميركي لمصلحة عملات مجموعة العشرة التي تتمتع بفائض قوي للحساب الجاري مثل الكرونة السويدية أو الين الياباني.

إذاً يبدو الإجماع واضحاً على أن الدولار من المرجح أن يشهد أداءً أكثر سوءاً على المدى القريب، لكن البعض يذهب بعيداً للحديث عن نهاية عصر «الامتياز الباهظ» للدولار وبداية نظام عالمي جديد.

نهاية الامتياز الباهظ؟

يثير الدولار حنق الكثيرين منذ سنوات بعيدة، ويأتي على رأس أشهر الناقمين وزير المالية الفرنسي في ستينيات القرن الماضي فاليري جيسكار، الذي أطلق جملة «الامتياز الباهظ للدولار» لوصف استغلال الولايات المتحدة نظراً لامتلاكها عملة الاحتياط الأولى في العالم لزيادة رفاهية شعبها على حساب الدول الأخرى.

وأشار فاليري في وصفه الشهير إلى أن الولايات المتحدة تقوم بطباعة الدولار وشراء كل ما تحتاج إليه من سلع وخدمات من باقي الدول بتكلفة تكاد لا تذكر، مع حقيقة حاجة العالم للورقة الخضراء في كل معاملاته.

لكن البعض ذهب في رؤيته مؤخراً إلى أن الولايات المتحدة قريبة من فقدان هذه الميزة بسبب تطورات اقتصادية وسياسية بعد تفشي الوباء.

«عصر الامتياز الباهظ للدولار كعملة احتياط عالمية يقترب من النهاية»، هكذا وصف ستيفن روش عضو جامعة يل الأميركية والرئيس السابق لوحدة آسيا في بنك «مورغان ستانلي» رؤيته لمستقبل الدولار وسبب تقديراته حول هبوط 35 في المئة لعملة الاحتياط الأولى عالمياً. ويلخص «روش» رؤيته في أن أي عملة تتوازن بين عاملين: الأساسيات الاقتصادية محلياً والتصور الأجنبي لقوة أو ضعف هذه الدولة، ولكن مع توقعات مكتب الموازنة في الكونغرس لارتفاع عجز الموازنة الأميركية إلى 17.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام وتقديرات تراجع معدل الإدخار المحلي واتساع عجز الحساب الجاري، فإن الدولار قد يتعرض لضغوط هبوطية شديدة.

تكهنات قديمة – جديدة

لا يمكن اعتبار التكهنات الخاصة بهبوط الدولار أو فقدانه مكانته العالمية أمراً جديداً، حيث تزايد وتيرة هذا الحديث طوال السنوات الماضية.

وبعد استحداث اليورو كعملة موحدة لعدد من الدول الأوروبية ظهرت تكهنات مستمرة حول منافستها أو حتى تجاوز الدولار في سباق العملات الأكثر استخداماً عالمياً في غضون عقد واحد.

وبعد الأزمة المالية العالمية ثم أزمة الديون السيادية في أوروبا، تحول الحديث بعيداً عن اليورو إلى اليوان الصيني بدعوى الحجم الكبير للدولة والنمو الاقتصادي المثير للإعجاب الذي سجلته على مدار عقدين متتاليين ثم أخيراً جهود عولمة الرينمبي ونشر استخدامه على الصعيد الدولي.

لكن الواقع لايزال يشير إلى أن الدولار هو عملة الاحتياط الأولى في العالم، ورغم تراجع حصته في الاحتياطات الدولية للبنوك المركزية إلى 60.8 في المئة بنهاية الربع الأخير من العام الماضي مقابل 61.5 في المئة قبل ثلاثة أشهر، فإنه يظل بعيداً عن اليورو الذي يمثل 20.5 في المئة، واليوان الصيني الذي يقف عند 1.9 في المئة من إجمالي الاحتياطات الدولية.

(أرقام)