مستقبل العلاقات الخارجية بعد انقشاع الأزمة
هناك إجماع متزايد على أن جائحة «كوفيد- 19»، علاوة على ما أحدثته من حالة إرباك غير مسبوق في جميع أصقاع المعمورة، قد أحدثت تغييراً جذرياً في أولويات الدول، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والتي حتماً سيكون استحقاقها الأول هو شكل ونمط العلاقات الدولية... وعرف القارئ اليوم، ولمس بشكل مباشر، حجم ذلك التأثير من خلال توقعات المفكرين الاستراتيجيين. ودولة الكويت على وعي كامل بتلك المتغيرات، وتعاملت معها بشكل سريع وفوري وبخطوات جريئة واستباقية، فقد جاء في خطاب حضرة صاحب السمو أمير البلاد، حفظه الله ورعاه، في مارس الماضي: «إننا في هذه المرحلة الدقيقة نركز على احتواء الوباء وإنقاذ الأرواح كأولوية قصوى تتعدى كل الاهتمامات ولا تلغيها، مما يستوجب المبادرة إلى دراسة التداعيات والآثار الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية التي ترتبت على الإجراءات الاستثنائية». وانطلاقاً من كلمات سموه وتوجيهاته، فإن بوصلة العمل المستقبلي هي ذلك التوجيه السامي من لدن سموه، حفظه الله ورعاه، ومن هنا فإن الكل مدعو إلى أن يدلي بدلوه في نقاش معمق وواسع حول الرؤى المستقبلية لكويت الغد بعد جائحة «كورونا». ولقد استنَّت جريدة «الجريدة» مشكورة هذه السلسلة من المقالات لتحفيز التفكير في تلك الرؤى، وتشكيل الخطوط العريضة لتلمس سياسات المستقبل بمنظور واقعي يأخذ كل آثار هذه الجائحة بعين الاعتبار انطلاقاً من روح المسؤولية الملقاة على عاتق جميع المواطنين.
وفي هذا الصدد، وفيما يخص الشأن الخارجي، هناك عدد من النقاط التي أرغب في إيجازها بما يلي:أولاً: بناء على التوجيهات السامية لسيدي حضرة صاحب السمو، حفظه الله ورعاه، فإن وزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج والمكاتب الفنية الملحقة بها والمتطوعين وجميع القطاعات في الدولة المعنية بعودة المواطنين في الخارج، قد تمكنت من إعادة مواطنينا في زمن قياسي وفق اشتراطات السلطات الصحية حفاظاً على منظومتنا الصحية بالرغم من الصعوبات والتحديات المختلفة، من إغلاق تام للدول، وزيادة تفشي الوباء، وندرة خطوط الطيران، إلخ... كذلك استمرت الوزارة في أعمالها وسط أصعب الظروف، ولاسيما في الدول التي تفشى بها الوباء، وكانت اتصالاتها الدولية موجهة، بالتنسيق مع القطاعات الأخرى في الدولة، إلى تعزيز أمننا الصحي والدوائي والغذائي. وقد زاد تغيير أولويات التعامل مع الدول رصيد الخبرات المشتركة في إدارة الأزمات، لكن هذا الأمر يدعو كذلك إلى المزيد من التدريب والتطوير لرفع الكفاءة والمهارة باعتبار أن العنصر البشري هو الحاسم والدائم في أي مؤسسة ومنها وزارة الخارجية. ثانياً: على المستوى الخليجي، وانطلاقاً من كلمات سمو الأمير وتوجيهاته، فإننا نرى أن مستقبل الكويت يكون بالتعاون مع أشقائها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، باعتباره خياراً استراتيجياً لنا، يزيده عمقاً تشابه البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ويعززه بقوة مبدأ وحدة المصير الخليجي لمواجهة التحديات، وهو ما دفعنا إلى تقديم مقترح بشكل عاجل يقضي بإنشاء شبكة أمن غذائي متكاملة بهدف تحقيق الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الست، إذ يشكل هذا الملف تحدياً حقيقياً بسبب اعتمادنا بنسبة 95 في المئة على استيراد احتياجاتنا الغذائية من الخارج، إلى جانب الحاجة الملحة إلى تطوير وتفعيل قرارات مجلس الصحة لدول مجلس التعاون، فانخفاض الواردات واضطراب التجارة العالمية يدفعاننا للتفكير جدياً في إنشاء شبكة مشتركة للإمدادات الصحية، وذلك في ظل تفاقم نقص الإمدادات الطبية والسلع المتعلقة بها، وإذا كان صاحب السمو الأمير، حفظه الله ورعاه، أشار في كلمته إلى التراجع الحاد في أسعار النفط، والذي سيؤثر على الملاءة المالية للدولة، فإن هذه الحالة تشترك فيها جميع دول المجلس، ومعالجتها ضمن مجموعة خليجية متعاونة حتماً ستتيح حلولاً أفضل وفرصاً أكثر.ثالثاً: على الصعيدين الإقليمي والدولي، وكذلك وفق ما ذكره سيدي حضرة صاحب السمو أمير البلاد فإن «عالم الغد بعد كورونا، لن يكون مثلما كان عليه قبل الوباء»، فقد عززت هذه الجائحة أهمية وفاعلية الهيئات والمنظمات الدولية، ودورها المحوري في حفظ الأمن والسلم الدوليين وصيانة الاستقرار العالمي، وتأمين صحة وسلامة البشرية.وفي ضوء كل ما سبق، بينت هذه الأزمة للجميع مدى الترابط العالمي ووحدة المصير الكوني، وأنه لا دولة محصنة من تداعيات الجائحة، ولا دولة بمفردها يمكنها التغلب عليها، وهنا نجدد الدعوة إلى أهمية تكاتف المجتمع الدولي وتضافره، فهذا هو السبيل الأنجع لمواجهة هذه الأزمة وغيرها من الأزمات المستقبلية.حفظ الله الكويت في ظل أميرها وولي عهدها من كل مكروه.* د. أحمد ناصر المحمد الصباح وزير الخارجية الكويتية