منذ بدء الهجوم التركي في أكتوبر 2019، وجدت "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" نفسها في وضع غير مستقر، فالهجمات الجديدة المحتملة من الجيش التركي هي "سيف" مُصلت بشكل مباشر على رأسها. ومع ذلك، تواجه "الإدارة الذاتية" وسلطاتها المحلية الرئيسة أيضاً- أي «قوات سورية الديمقراطية» بقيادة الأكراد- العديد من التهديدات الأخرى لحكمها الذاتي، من بينها القضايا الإنسانية الجسيمة، وانبعاث تنظيم «الدولة الإسلامية»، والمطالب المتكررة للنظام السوري بعودتها إلى حظيرته دون قيد أو شرط. وعلى الرغم من أن بشار الأسد وحلفاءه في موسكو يفتقرون إلى الوسائل لفتح مواجهة عسكرية مع «قوات سورية الديمقراطية» أو الرغبة في القيام بذلك، فإنهم يستغلون، بسهولة، نقاط الضعف المحلية التي ازدادت حدة بسبب الهجوم التركي والانسحاب الجزئي للقوات الأميركية، والذي يأملون برؤيته مكتملاً في الأشهر المقبلة.
ألحق الهجوم التركي إصابات خطيرة في صفوف «قوات سورية الديمقراطية»، لأن الوحدات الكردية المنضوية تحت مظلتها تُرِكت لخوض المعركة بمفردها - فقد امتنعت الوحدات العربية لـ «قوات سورية الديمقراطية» إلى حد كبير عن القتال، لأنها لا تعتبر نفسها جزءاً من النزاع مع أنقرة. وبناءً على الرحلات التي قام بها الكاتب إلى المنطقة والمحادثات التي أجراها مع مسؤولين محليين، لا يبدو أن أياً من الميليشيات العربية قد انشق عن «قوات سورية الديمقراطية»، على الرغم من دعوات النظام العاجلة للقبائل العربية بالانضمام إلى الجيش السوري. وطالما توجد القوات الأميركية في شرق البلاد، ويتم دفع أجور المقاتلين، فلدى «قوات سورية الديمقراطية» فرصة جيدة للبقاء متحدة والسيطرة على معظم الأراضي المعنية.لكنّ وجود القوات السورية والروسية يعقّد المشهد، فهي تتمركز في بعض القواعد داخل "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، وكذلك في جميع المناطق الحدودية مع الجيش التركي، ومن المرجح أن يكون الهدف من تمركز روسيا هو تأخير أي هجوم تركي جديد، مؤقتاً، بقدر ما يكون السيطرة على المحاور الاستراتيجية لـ "الإدارة الذاتية". وعلى أي حال، لم يعد بإمكان وحدات «قوات سورية الديمقراطية» والمدنيين المحليين استخدام قسم من الطريق السريع "إم فور" (M4) بين عين عيسى وتل تمر بِحُريّة، وتم إغلاق الطريق من أكتوبر 2019 إلى مايو هذا العام، وتقتصر حركة المرور حالياً على المواكب مع الحراسة العسكرية الروسية، وللوصول إلى الرقة أو كوباني من القامشلي، يجب على المسافرين الآخرين أن يسلكوا مساراً أطول وأكثر خطورة يتم تهديده بانتظام من قبل غارات تنظيم «الدولة الإسلامية»، ويمكن للقوات الروسية والسورية قطع هذا الطريق البديل الضيق بسهولة إذا أرادت فصل الجزء الغربي من "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" عن المعقل الكردي القامشلي- الحسكة.وبقي بعض القوات الأميركية في رميلان، والشدادي، وفي حقول النفط جنوب شرق دير الزور، وتقوم بدوريات مكثفة في الطرق بهذه المناطق، مما يمنع القوات الروسية والسورية من استخدام المسارات خارج منطقة نفوذهم المباشرة، وتخضع المعابر الاستراتيجية الحيوية بين الطريق السريع "إم فور" (M4) وطريق عامودا الحسكة لسيطرة أميركية متشددة، حيث لا يُسمح للقوات الروسية باستخدامه للوصول إلى قواعدها في عامودا والقامشلي، وبالمثل، يُحظر على القوات الروسية والسورية، التي تثير بانتظام حوادث مع الدوريات الأميركية، العبور في الطريق بين رميلان ومعبر فيشخابور مع العراق، وتريد موسكو السيطرة على هذا المعبر، لأنه يشكّل الاختراق الوحيد لحزام التطويق الذي بنته تركيا وروسيا وإيران والأسد حول "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، وبالفعل، فبتعاون أنقرة، يبدو أن "الكرملين" يتّبع استراتيجية للسيطرة التدريجية من خلال النقاط الاستراتيجية والاختناق الاقتصادي.
حرب المياه
قبل اندلاع الحرب الأهلية، لطالما دفع نظام "البعث" المنطقة الخاضعة حالياً لسيطرة "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" للتخصص في إنتاج المواد الخام، كالقمح والقطن والزيت، والتي كان يتم إدخالها بعد ذلك في إنتاج المواد الغذائية بغرب سورية. وكان الهدف من تلك الخطوة إبقاء المنطقة معتمدةً على دمشق والحدّ من ميول الحكم الذاتي، سواء بين الأكراد أو القبائل العربية.وتشكّل هذه الترتيبات تحدياً كبيراً للحكم الذاتي للمنطقة حالياً، لأنها لا تزال تعتمد إلى حدّ كبير على الواردات في المجال الزراعي وقطاعات أخرى (على سبيل المثال، لا تنتج "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" الأسمدة أو المبيدات الخاصة بها لمحاصيل التصدير)، وكانت المحاصيل تتناقص بصورة هائلة منذ عام 2011، مما أدى إلى انخفاض كبير في دخل المزارعين، كما أدت الحرائق التي انتشرت في عام 2019 إلى ثني العديد من السكان المحليين عن زراعة حقولهم.والأهم من هذا كله، يفتقر المزارعون في "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" إلى المياه الكافية، بسبب تدمير شبكات الري الكبيرة على نهر الفرات خلال الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وستكون إعادة تأهيل هذه الشبكات بطيئة ومكلّفة، وتتطلب مساعدة كبيرة من المنظمات الغربية غير الحكومية التي أصبح عملها معوّقاً حالياً بسبب المخاطر الأمنية.بالإضافة إلى ذلك، تستخدم تركيا المياه سلاحا ضد "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، مما يقلل من تدفق مياه نهر الفرات والاستفادة من المياه الجوفية حول الحدود، وبالتالي تقليل الكميات المتاحة في المصب. ومع استيلائها على رأس العين، أصبحت القوات التركية تسيطر الآن على المصدر الرئيسي لمياه الشرب في محافظة الحسكة، وهي محطة علوك لضخّ المياه، حيث يتمّ إرسال الإمدادات إلى عاصمة المحافظة عبر تلّ تمر وغيرها من المناطق، وتتزايد التخفيضات الطوعية رغم الوساطة الروسية، ومن الصعب جداً إيجاد مصادر جديدة للمياه لعدد كبير من سكان الحسكة، الذين تضخّم عددهم إلى 450 ألف شخص، بعد وصول لاجئين جدد من تل أبيض ورأس العين، فالمياه الجوفية المحلية مالحة، وستكون عملية بناء أنبوب من المالكية، التي هي مصدر أكثر ملاءمة، طويلة ومكلّفة، ويتمثّل حل مكلف آخر في توسيع "قناة الصور" إلى أقصى الشمال من الشدادي، لكن السلطات الكردية تخشى من الاعتماد على "المياه العربية".وفي الوقت الحالي، يثير انقطاع المياه استياء السكان ويخلق توترات إضافية بين العرب والأكراد، وقد اتّهمت القبائل العربية في الجزء الجنوبي من محافظة الحسكة سلطات "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" بتخزين إمدادات المياه المحلية للمجتمعات الكردية في الشمال، وإحياء الشائعات عن قيام تطهير عرقي.منع المساعدات الإنسانية
إجمالاً، يعيش حوالي 3 ملايين نسمة تحت سيطرة «قوات سورية الديمقراطية»، في مناطق من بينها جيب الشهباء شمال حلب وحي الشيخ مقصود في حلب. وغالبية هؤلاء السكان في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية، ولا سيما ما يقدر بنحو 700 ألف من المشردين داخلياً. وليس لدى الأكراد الذين تمّ طردهم من عفرين وتل أبيض ورأس العين خلال الهجمات التركية في شتاء 2018 وخريف 2019 أمل كبير في العودة إلى تلك المناطق. ووفقاً لـ "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية"، أدى الهجوم الأخير إلى تشريد 222 ألف شخص، وكان جميع من عادوا إلى ديارهم البالغ عددهم 117 ألفاً من العرب.إن هذا الوضع يجعل المساعدات الغربية لـ "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" أكثر أهمية، ومع ذلك حاولت موسكو مراراً وتكراراً منع هذه المساعدة، سواء في مجلس الأمن الدولي، أو من خلال إجراءاتها على الأرض. وفي ديسمبر، اعترضت على اقتراح مجلس الأمن باستخدام اليعربية في الشمال الشرقي معبراً حدودياً لإمدادات الأمم المتحدة عن طريق العراق، وحالياً، لا يمكن أن تأتي المساعدة إلّا من خلال الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وقد دعم "الاتحاد الأوروبي" والولايات المتحدة بشدة الشحنات التي تقدّمها المنظمات غير الحكومية الإنسانية لتعويض النقص الناجم عن شحنات الأمم المتحدة، لكنّ أنشطة الدوريات الروسية أعاقت عمليات هذه المنظمات على طول محور فيشخابور- القامشلي.وفي غضون ذلك، حاول الأسد استغلال الوباء العالمي الناتج عن فيروس كورونا لتشويه سمعة "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، زاعماً أن الدولة السورية هي الوحيدة القادرة على مكافحة هذا الوباء. ونظراً إلى تقاعس الأمم المتحدة والضغوط الروسية، لا تزال منظمة الصحة العالمية تعمل بشكل أساسي مع الحكومة السورية الرسمية، وبالتالي تقع جميع المختبرات الرئيسية القادرة على إجراء فحوصات للمشتبه في إصابتهم بـ "كوفيد-19" في دمشق واللاذقية وحلب. وترفض "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" إرسال الاختبارات إلى هذه المختبرات، لأنها لا تريد أن ينشر النظام معلومات مضللة محتملة تزعزع الاستقرار حول معدلات الإصابة في الشمال الشرقي من البلاد. وفي منتصف أبريل، أقام «إقليم كردستان العراق» مختبرين في "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية"، لكنّ المعدات الطبية لا تزال شحيحة، مما أجبر السلطات الكردية السورية على إغلاق معبر فيشخابور طوال مارس وأبريل، وفرضْ قيود صارمة على الحركة الداخلية من أجل منع انتشار الفيروس على نطاق أوسع، وكانت هذه الجهود فعالة من حيث احتواء الوباء، لكنّها أضرت بالمساعدات الخارجية والاقتصاد المحلي الهش.ضرورة وجود عزم سياسي غربي
هدف روسيا الظاهر هو تضييق الخناق على "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" والتسبب في حلّها، وإقناع «قوات سورية الديمقراطية» بالاندماج في "الفيلق الخامس" للجيش السوري، وفي الوقت الحاضر، ساهم وجود القوات الأميركية والمساعدات الكبيرة التي قدّمتها الولايات المتحدة في فشل هذه الاستراتيجية، ومع ذلك، لم تفقد موسكو وحلفاؤها الأمل في أن تغيّر إدارة ترامب قواعد اللعبة، من خلال إصدار قرار بسحب المزيد من القوات، وتعتمد روسيا أيضاً على هجوم تركي جديد ضد الأكراد، مما قد يجعل الوجود الأميركي غير منيع إذا ما حصل على مقربة من رميلان. ومنذ عام 2016، عرضت موسكو على تركيا بشكل منتظم قطعة من "كردستان السورية" مقابل التنحّي جانباً، بينما يستمر محور الأسد في استعادة الجزء الشمالي الغربي من البلاد، وبعد التقدّم الأخير للجيش السوري في إدلب، قد تحصل أنقرة الآن على الضوء الأخضر من روسيا لشنّ هجوم جديد في الشمال الشرقي من البلاد.أما بالنسبة للحوار الذي جرى الشهر الماضي بين الأحزاب السياسية الكردية السورية المتنافسة، فقد رحبت الولايات المتحدة وأوروبا بالتقدم الدبلوماسي المحرز، لأن قيام جبهة كردية موحدة قد يُقوّي "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية". ولكن من الناحية الواقعية، لن يساهم هذا الحوار في إزالة أي من المخاطر المذكورة أعلاه التي تهدد الحكم الذاتي للمنطقة، والمطلوب بدلاً من ذلك هو عزم سياسي غربي للوقوف في وجه استراتيجيات كل من روسيا وتركيا، مدعوماً بوجود عسكري كافٍ لثني أي مساعٍ خارجية لتنفيذ انقلاب، وقيام حملة إنسانية واقتصادية على غرار خطة "مارشال" للحد من التوترات الداخلية. ويمكن للتناقض بين التحسينات التي طرأت على اقتصاد "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" والتدهور المالي في المناطق التي يسيطر عليها النظام (على سبيل المثال، بسبب العقوبات الأميركية الجديدة الناشئة عن قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية) أن يعطي دفعة قوية بشكل خاص للسلطات المحلية.* فابريس بالونش