سيلفيا بلاث... التجارب الذاتية لاتقف عند النص الشعري
الإبداع هو نزع المألوف عن الأشياء، وتقديم الظواهر في صور وصياغات جديدة، وذلك ما تصبو إليه الفنون بأنواعها إذ تتطلب هذه العملية إيجاد علاقات غير معهودة بين المعطيات المتوفرة في الواقع، وبهذا يكتسبُ صاحب الأثر الرهان في إقناع المتلقي بأنّه أمام ثغرة في سلسلة المشاهد المتتابعة والمعادة وبأنَّ مايقعُ عليه النظر هو جانب غير مطروق فيما تعودَّ عليه.
ولا يكتفي عدد من المبدعين بنزع الألفة من نتاجاتهم بل يعيشون حياة ربما أكثر غرابة مما بلغت إليه أعمالهم الفنية والأدبية الأمر الذي تراه بالوضوح في حياة كافكا وميلينا وفان كوخ أليخاندرا بيثارنيك على سبيل المثال لا الحصر، كذلك فإنَّ الشاعرة الأميركية الراحلة سيلفيا بلاث تنضمُ إلى هذا الفصيل في روايتها الوحيدة «الجرس الزجاجي» فكانت حياتها صاخبة، لذا فإن وقائع أيامها ظلت مثيرة للاهتمام بينما تبدو نصوصها الشعرية ظلالاً شاحبةً لتجاربها الحياتية.
ولا يكتفي عدد من المبدعين بنزع الألفة من نتاجاتهم بل يعيشون حياة ربما أكثر غرابة مما بلغت إليه أعمالهم الفنية والأدبية الأمر الذي تراه بالوضوح في حياة كافكا وميلينا وفان كوخ أليخاندرا بيثارنيك على سبيل المثال لا الحصر، كذلك فإنَّ الشاعرة الأميركية الراحلة سيلفيا بلاث تنضمُ إلى هذا الفصيل في روايتها الوحيدة «الجرس الزجاجي» فكانت حياتها صاخبة، لذا فإن وقائع أيامها ظلت مثيرة للاهتمام بينما تبدو نصوصها الشعرية ظلالاً شاحبةً لتجاربها الحياتية.
إنَّ تأمّل التجارب الذاتية لاتقف عند النص الشعري لدى الكاتبة الأميركية الراحلة سيلفيا بلاث بل طوعت روايتها الوحيدة «الجرس الزجاجي»، الصادرة في طبعة عن دار الرافدين، لتدوين جوانب من سيرتها لاسيما سنوات الدراسة والرحلة إلى نيويورك لتباشر العمل بمجلة «يوم السيدات» إذ تشارك إيستر غرينوود، وهي الأنا الأخرى للكاتبة، في هذه التجربة برفقة اثنتي عشرة فتاةً، وتقيم بأحد فنادق نيويورك ويهمها أن تكون ناجحةً في إنجاز فروضها الدراسية في المواعيد المقررة، في حين توبخها دورين على قلقها الدائم بشأنِ كتابة القصة وتسليمها لجيسي، وجدت إيستر في مديرة العمل شخصية ودودة وهي تتقن لغتين وعلى معرفة بالكتاب المهمين في عالم الموضة.
وجبات مقتصدة
وتستشفُ من الحوار الذي يدور بين صديقتين أنَّ دورِين شخصية يستهويها التواصل والعلاقات ولهجتها لاذعة غير محتشمة في إطلاق الأوصاف على من لايعجبها، فيما تظهر إيستر بصورة أقل دراية بمثل هذه الأجواء، ولم تستوعب منظر تكدس الطعام الذي يصيبها بالغثيان لأنَّ الجدة قد ربتها على وجبات مقتصدة، وكلما رفع أحدهم اللقمة إلى فمه تذكره بأنَّ رطلاً واحداً كلفها 45 سنتاً، وهذا ماخلف لديها الشعور بأنها تأكل نقوداً بدلاً من الطعام، وما يشكل قلقاً لإبنة بوسطن هو أتكيت المأكل، لكن مالبثت أن تكتشفُ بأن المرء إذا أساء التصرف حسب أتكيت المائدة لكن بطريقة كأنما يفعله هو الصحيح فيتمكن من أن ينفذ بجلده والغريب في محتويات هذا العمل هو حضور شبح الموت، إذ ينطلقُ السردُ باستعادةِ اللحظة التي يتمُ فيها إعدام آل روزبيرغ، ومن ثمَّ ترى إيستر تشابها بين أحواض الاستحمام الحديثة وتوابيت الموتى، مشيرةً إلى أنَّ هذا الوعاء المكاني هو طريقها المفضل نحو التأمل العميق.
الأنظمة المجتمعية
وفي ذات السياق، تتذكر إيستر معاينتها لأجنّة الأطفال الذين ماتوا قبل ولادتهم ثمَّ تصحبُ صديقها بدي ويلاد لمتابعة امرأة تمرُ بحالة المخاض وتستخلص من المشهد بأنَّ المخدر الذي يخفف ألم الولادة مخترع رجولي ليجعل المرأة مستمرة في الولادة، وهذا الرأي يضمرُ توجهاً نسوياً يحاججُ الأنظمة المجتمعية بتمظهراتها المختلفة وهكذا تتابعُ أجزاء الرواية بأسلوب عفوي حيثُ يتمُ سرد الأحداث بالضمير الأول، وهذا مؤشر أولي لتداخل الرواية مع سيرة بلاث.كما أنَّ الفراغ الذي يتركه رحيل الأب لدى إيستر يحيلُ إلى حرمان الكاتبة من رعاية والدها الذي مات حين كانت سيلفيا في السابعة من عمرها، وإنَّ قيام إيستر بالاهتمام بقبر والدها محاولة لاستعادة دفء الطفولة والشعور بالرعاية المفضلة على كنفه.السيرة الذاتية
وفي مفصل آخر، تعبرُ البطلة عن رغبتها في كتابة رواية لكن تتساءلُ «كيف أكتب عن الحياة وأنا لم أعِش تجربة حقيقية ولم أنجب طفلاً لأهبه الحياة؟ «مايفهمُ من عبارة إيستر هو إدراكها لضرورة النضج العقلي والتجربة العاطفية قبل الشروع في كتابة العمل الروائي، وما يدفعُ هذا العمل نحو حقل السيرة الذاتية إضافة إلى العلامات المشار إليها آنفاً اشتراك بلاث مع بطلتها الروائية الرغبة في الانتحار إذ تجربُ إيستر عدة أساليب لإنهاء حياتها منها الشنق والغرق وتعاطي الحبوب وقطع الشرايين هنا تلمحُ إيستر إلى سينكا الذي رأى في قطع الشرايين داخل حوض الاستحمام طريقة مناسبة للانتحار وتبدي استغرابها من أسلوب الانتحار الجماعي لدى اليابانيين مقتنعة بأنَّ ذلك يتطلبُ شجاعة كبيرة كما تسألُ صديقه كال بشأن الموضوع نفسه معلنة «كل شيء قرأته في حياتي عن المجانين علق في ذهني بينما تلاشت الأشياء الأخرى إلى الضياع» وبعد هذه المحاولات تكتشفُ إيستر طبيعة جسدها المراوغ وتمكنه من تفادي الموت.ويكون السردُ أكثر كثافةً عندما تتحول الراوية إلى الحديث عن الأيام التي تمضيها في المصحة وتتفاجأ بانتحار صديقتها جوان، والملاحظ هو غياب حياة عاطفية لدى إيستر وإن تواصلها جسدياً مع إيرون لم يكن إلا محاولة لمعرفة وضعية أخرى للجسد.الشخصية الروائية
ويقعُ المتلقي على علامات تؤكدُ أن رواية «الجرس الزجاجي «سيرة ذاتية مكتوبة في قالب روائي إذا تابع وحداتها بموازاة فتح درج رسائل سيلفيا بلاث كانت الأخيرة على منوال بطلتها تكتبُ القصص ويساورها القلق من التعثر في الكتابة، كما أن تتطلع إلى حياة غير عادية لدى الشخصية الروائية هو عنصر بارز في شخصية بلاث أيضاً أكثر من ذلك فإنَّ التقلب بين الإنطوائية والمرح هو مشترك آخر بين سيلفيا بلاث وصنيعتها الورقية «إيستر» هذا فضلاً على العلامات المكانية والمهنية التي تضعُ إيستر وبلاث على خط واحد.مايعني أنَّ الرواية تتطابق في خطوطها العريضة مع وقائع حياة بلاث بما فيها محاولاتها المتعددة للانتحار، لكن الأهم في رسائل سيلفيا بلاث هي التفاصيل الدقيقة التي تسجلها حول علاقتها بالشاعر البريطاني تيد هيوز إذ تعطيه كل الحب ولاتغفل عن وصف ذكائه وجاذبيته بل تدسُ ماكتبَ عن أشعاره في الرسائل التي تتبادلها مع أمها وصديقاتها وتعبرُ عن إعجابها الشديد بشكله وقسمات وجهه تقولُ «إنه الشخص الذي احتجته لكن لم أظن أنه يمكن أن يوجد» يمدُ هذا المناخ المشحون بالحب بلاثَ بالطاقة إذ تدرسُ في الجامعة وتتابعُ إنجازات تيد الإبداعية لكن ما قالته سيلفيا بلاث لأمها عقب لقائها بتيد قد حصل فعلاً «الشيء الأكثر تدميراً هو أننى في الشهرين الأخيرين واقعة في حب غامر الأمر الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى ضرر كبير»ما أن يطوفُ شبحُ إمرأة أخرى بينها وبين تيد حتى ينسفُ الحب بين الاثنين إذ تقول بلاث في إحدى رسائلها بأنَّ تيد هيوز يتمنى لها الموت وهو مدرك لما وصلت إليه سيلفيا من الاحباط والانهيار العصبي لذا يترقب انتحارها ليبيع البيت ويحوز الأموال وابنته فريدا.تيد هيوز
وما يعذبُ بلاث أكثر أن تيد هيوز كان يتمتع بلندن بشهرته برفقة عشيقته الجديدة آسيا ويفل المرأة الماكرة حسب المواصفات التي تذكرها بلاث في رسائلها إذ عبرت ثلاثة رجال قبل أن ترتبط بتيد هيوز ما يثير السؤال لدى المتلقي هل انتحرت بلاث المحبة للطبيعة والحياة نتيجة كآبة متأصلة في شخصيتها حيث تفصحُ عن ذلك على لسان بطلة «الجرس الزجاجي»، لافتةً إلى توارث الكآبة في القرية التي نشأ فيها الأب أو بسبب العنف الذي اتصفت به وانعكس في تعبيرها عن الحب أيضاً إذ تعضُ تيد في أول لقاء يجمع بينهما على حد قول سيمون دو بفوار أو أن كل ذلك غير صحيح إنما هروب تيد هو ما حدا بها لاختيار الانتحار وبذلك ردت على نيتشه الذي قال» المرأة لا تموت من الحب، لكنها تذوي بحثاً عنه» أخيراً ما يجدرُ الإشارة إليه أنَّ إيستر تنطقُ بجملة ذات دلالة عميقة» الإنسان الذي لايتوقعُ شيئاً من أحد لايشعر بالخيبة مطلقاً» كيف كانت طبيعة حياة بلاث لو مارست الحياة وفقاً لهذا المبدأ الرواقي.