الزراعة الرقمية وبناء المستقبل
مع استمرار جائحة فيروس كورونا المستجد لم يحن الوقت لنفكر في كيف نبني مجددا فقط، بل كيف نبني للمستقبل، علما أنه من خلال تسريع الاستثمار والابتكار في الزراعة الرقمية يمكننا حماية الناس الأكثر فقرا في العالم من بعض أسوأ تأثيرات الأزمة الحالية.
إن جائحة "كوفيد-19" تعيد تشكيل المجتمعات حول العالم، وهذا يتم جزئيا من خلال تسريع الثورة الرقمية التي كانت تجري بالفعل في بداية العام، ومنذ ذلك الوقت بدأت الشركات بترسيخ العمل عن بعد على نطاق واسع، لقد أصبحت التجمعات الدولية تتم عبر الإنترنت، حيث يشارك قادة العالم والصناعات من منازلهم كما أصبح الطلاب يتعلمون عن بعد، وبالإضافة الى ذلك بدأ الدفع الرقمي يحل مكان الدفع النقدي بشكل متزايد.لكن بعد أن أصبحت التقنية تؤثر في حياتنا أكثر من أي وقت مضى فإن هناك خطرا بأن تنتشر بشكل غير متساو مما يرسّخ انعدام المساواة الحالي، ويجعل الناس الأكثر فقرا في العالم يتخلفون عن الركب بشكل أكبر، ولكن هذا ليس أمرا محتوما، فالتقنيات الرقمية يمكن أن تساعد في إنهاء الفقر والجوع على مستوى العالم بشكل أسرع بما في ذلك في المناطق الريفية من الدول النامية، حيث يكسب معظم الناس عيشهم من الزراعة.إن الزراعة الرقمية- حيث يستخدم المزارعون الهواتف المحمولة وغيرها من التقنيات الرقمية للوصول الى معلومات زراعية متخصصة وقابلة للتنفيذ بدون تأخير– يمكن أن تكون بمثابة ثورة في كيفية تأمين وتحسين تلك المجتمعات لسبل عيشها، وإذا عملنا الاستثمارات الصحيحة اليوم حيث توجد قيود على زيارة موظفي الارشاد الزراعي للمزارعين شخصيا، فإنه يمكننا إطلاق عملية التبني الرقمي والبدء بجسر الهوة المتعلقة الدخل التي كانت دائما ما تعوق تقدم المناطق الريفية.
ومن البدهي أن يحتاج صغار المزارعين معلومات دقيقة وبدون تأخير كما هي حال كل المؤسسات الصغيرة، ولهذا السبب فإن الحكومات في الدول المتقدمة والنامية ولعشرات السنين كانت تدعم المزارعين من خلال حملات توعية عامة، لقد كان الهدف من إطلاق أقدم مسلسل دراما إذاعي في العالم "ذا أرشيرز" الذي بدأ بثه في خمسينيات القرن الماضي هو مساعدة المزارعين على زيادة إنتاجيتهم الزراعية، وذلك بعد التقنين ونقص الغذاء خلال الخرب العالمية الثانية. أما اليوم فإن معظم المزارعين في أقصى أصقاع الأرض لديهم هواتف محمولة مما يعني أنهم قادرون على تلقي مشورة زراعية موجهة، وذلك من خلال الرسائل النصية أو الصوتية، وحتى لو تم تكن لديهم القدرة على الوصول للإنترنت فعلى سبيل المثال في أوديشا في الهند فإن مؤسسة بريسيجن للتنمية الزراعية تقدم نصائح زراعية مجانية متخصصة ومتعلقة بالمحاصيل على وجه التحديد لنحو 800.000 مزارع وذلك من خلال هواتفهم.فهناك أدلة كثيرة مثبتة بأن مثل تلك النصائح التي يتم تقديمها على نطاق واسع وبتكلفة منخفضة يمكن أن تغير ممارسات المزارعين للأفضل، وهناك أدلة متزايدة تظهر أن المزارعين الذين يتم تمكينهم من خلال المعلومات الرقمية سيتمكنون من زيادة محاصيلهم ومداخيلهم وصلابتهم ضد الصدمات، فهناك ورقة شارك في كتابتها أحد كاتبي هذا المقال "كريمر" ونشرت مؤخرا في مجلة "ساينز" تظهر أن المزارعين الذين تلقوا توصيات رقمية كانوا أكثر احتمالية بنسبة 22% لتبني المدخلات الكيمائية الزراعية الموصى بها، مما أسفر عن فوائد بقيمة 10 دولارات لكل دولار يتم إنفاقه.بالإضافة إلى ذلك وفي حين يعتمد المزارعون على الهواتف المحمولة لتلقي معلومات السوق ومعلومات عن القدرة على الوصول إلى الحسابات البنكية ومراقبة تنبؤات الطقس فإن التقنيات الرقمية تقدم مجموعة من الفرص الأخرى للفقراء والمجتمعات الريفية، ومع توافر الدعم من الصندوق العالمي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة فقد تم تركيب أجهزة استشعار عن بعد من أجل مساعدة المزارعين على الاستفادة القصوى من مستويات المياه والأسمدة لمحاصيلهم، كما يتم استخدام الطائرات بدون طيار لتحديد النباتات المتضررة، وذلك حتى يتم اتخاذ الإجراءات العلاجية اللازمة.والابتكارات في الزراعة الرقمية يمكن أن تساعد المزارعين كذلك في زيادة محاصيلهم ومداخيلهم، وذلك من خلال استخدام بذور وأسمدة مناسبة محليا وحماية المحاصيل من الأمراض والآفات (مثل دودة الجيش الخريفية أو الجراد) والتأقلم مع التغير المناخي والبيع بأفضل سعر ممكن والوصول إلى الخدمات المالية، فجميع تلك التطبيقات يمكن أن تزيد الفرص المتاحة للمزارعين وتقلل من المخاطر التي يتعرضون لها.في واقع الأمر فإن من الممكن أن تصبح الرقمنة بمثابة نقطة تحول في البلدان النامية، ولكن عمل ذلك يتطلب المزيد من الابتكار وشراكات قوية بين الحكومات والشركات والمزارعين مع توافر بيئة تنظيمية، وذلك للتحقق من توافر التقنية بأسعار معقولة ويمكن الوصول اليها.يجب تشجيع القطاع الخاص على تطوير وتبني التقنيات وإعادة تصميمها لمصلحة صغار المزارعين وبالتعاون معهم، فالاستثمار في الزراعة الرقمية اليوم لديه الإمكانية لتحقيق أربعة أضعاف العائد، وذلك من خلال الخطوات التالية: أولاً: يمكن للرقمنة أن تساعد العديد من الناس الأكثر فقرا في العالم في التصدي لأزمة "كوفيد-19" وذلك من خلال إعطائهم القدرة على الوصول عن بعد للمشورة والمدخلات والأسواق.ثانياً: يمكن للرقمنة أن تزيد إجمالي الإمدادات الغذائية وتعزز الأمن الغذائي، وذلك من خلال محاصيل ذات عوائد أفضل. ثالثاً: يمكن للرقمنة أيضا أن تسّرع من تبني استراتيجية مجربة وفعالة من حيث التكلفة وقابلة للتوسع لزيادة الإنتاج الزراعي الطويل الأجل وتحسين سبل العيش للفقراء وسكان الريف. وأخيراً فإن الرقمنة يمكن أن تعطي المزارعين صوتا يساهم في تمكين الحكومات على توجيه وقياس تأثير الاستثمارات الزراعية.لكن التقنية الرقمية لا تعتبر الحل الناجع لجميع المشاكل، ففي حين تتوافر الهواتف المحمولة بشكل متزايد لدى المزارعين فإنهم بحاجة كذلك الى المشورة التي يتم تطويعها لتتناسب مع احتياجاتهم بالإضافة الى القدرة على الوصول إلى المدخلات الزراعية (الأسمدة والبذور) والأسواق لبيع منتجاتهم.مع استمرار جائحة فيروس كورونا المستجد لم يحن الوقت لنفكر في كيف نبني مجددا فقط، بل كيف نبني للمستقبل، علما أنه من خلال تسريع الاستثمار والابتكار في الزراعة الرقمية يمكننا حماية الناس الأكثر فقرا في العالم من بعض أسوأ تأثيرات الأزمة الحالية، فالمرء يأمل عندما نخرج جميعا من الإغلاق أن نكون قد وضعنا الأسس لبناء مستقبل أكثر عدلا وازدهارا واستدامة.* مايكل كريمر * جيلبرت ف هونغبو* مايكل كريمر حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2019، وهو أستاد في الاقتصاد في جامعة هارفارد ومؤسس مشارك وعضو في مجلس إدارة مؤسسة بريسيجين للتنمية الزراعية، وجيلبرت ف هونغبو هو رئيس وزراء سابق في جمهورية توغو، وهو يعمل حاليا كرئيس للصندوق العالمي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة.«بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»
من الممكن أن تصبح الرقمنة بمثابة نقطة تحول في البلدان النامية لكن ذلك يتطلب المزيد من الابتكار