اختار الشعب الروسي الأسبوع الماضي رفض النظام العالمي المعاصر، إذ يشير قراره إلى تغيّر شامل في المعايير المتعارف عليها، ففي 1648 وقّع عدد من الدبلوماسيين الأوروبيين على وثيقة تُحدد أسس النظام العالمي المعاصر على طاولة المفاوضات في «مونستر وأوسنابروك»: إنها معاهدة «وستفاليا»، ولم يدرك الموقّعون طبعاً أثر مساهمتهم في التاريخ، بل واجه مهندسو المعاهدة واقعاً مزعجاً، وبعد 30 سنة من الحرب المتواصلة وقرون من الصراعات الدينية، حان الوقت لوقف المجازر.قررت القوى الغربية أن يرتكز نظام «وستفاليا» الخاص بالدول المستقلة على اقتراح محوري واحد: إذا كانت الدبلوماسية تتكيف مع مجموعة كبيرة من القناعات الدينية وأنظمة القيم والثقافات، فيجب أن يكون جوهرها إجرائياً، وبعبارة أخرى يجب أن يضع حاملو الآراء المتناقضة اختلافاتهم جانباً للاتفاق على مجموعة من الشراكات التي تفيد جميع الأطراف. لإقامة هذه العلاقات الفاعلة والحيادية، يجب أن يتغير الكيان الأساسي للعلاقات الدولية أيضاً، وهكذا نشأ مفهوم الدولة القومية المستوحى من «وستفاليا»، مما يشير إلى وحدة سياسية علمانية ترتكز على عوامل ردع منطقية وحوار متعدد الجوانب.
وقبل أيام انقلب الشعب الروسي على نظام «وستفاليا» بالكامل حين صوّت لتعديلات دستورية كبرى، حيث خضع الاستفتاء لإشراف الكرملين وهو يسمح لفلاديمير بوتين بالحفاظ على منصب الرئاسة حتى 2036 (في حال إعادة انتخابه)، كما أنه يمنع زواج المثليين، ويضيف مفهوم «الإيمان بالله» إلى الدستور الروسي، ويشدد على تفوق القانون الروسي على المعايير الدولية. باختصار، كان الشعب الروسي مضطراً للاختيار بين تقبّل العصرنة ورفض أسسها، وقد فضّل الخيار الثاني، فكانت معارضة التعديلات تُمهّد لنشوء دولة قومية روسية تتماشى مع مبادئ معاهدة «وستفاليا»، وفي هذه الحالة لا مفر من أن تنهار طموحات بوتين التوسعية ويسقط آخر معقل لمعاداة الليبرالية الغربية، لكن لم يحصل ذلك. لا يؤدي ظهور القوى المعادية للعصرنة إلى سقوط نظام «وستفاليا» بالضرورة، لكن يُفترض أن يفعل ذلك، ومن المعروف أن النظام العالمي الراهن هو أكثر ليبرالية من أي نظام سابق في التاريخ، وتتابع الدول الحرّة والديمقراطية امتلاك نفوذ هائل، وقد حصدت أنظمة الملكية الخاصة المبنية على حركة السوق دعماً شبه عالمي، وتدافع مجموعة واسعة من المؤسسات الدولية عن القيم الليبرالية حول العالم، ومع ذلك يجب ألا نتبنى تحليل فرانسيس فوكوياما التفاؤلي حول «نهاية التاريخ». يُعتبر الاستفتاء في روسيا جزءاً من سلسلة اختلالات واسعة، من سورية وليبيا إلى العراق وأفغانستان، فقد شكّل التدخل الغربي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط فشلاً منهجياً، وخارج الغرب لا يزال الالتزام الصادق بالمبادئ الديمقراطية هشاً، وداخل الغرب ترفض حركات القومية المتجددة أسس التعاون الدولي، وبدل أن يكون «النظام العالمي الليبرالي» بنية واضحة ومتماسكة، يبدو أنه يفتقر في نهاية المطاف إلى الليبرالية والنظام.على مر ثلاثة قرون تقريباً طرح المراقبون الغربيون فرضية خاطئة مفادها أن الناس ينجذبون بطبيعتهم إلى القيم الليبرالية وأن مظاهر العقلانية والتقدم محكومة بالتفوق على الاستبداد والتقاليد، لكن أفضل طريقة للحفاظ على النظام العالمي الليبرالي تفضي بالاعتراف بعيوبه الراهنة: أولاً، لا بد من الدفاع عن المعايير الليبرالية بقوة تساوي حجم الهجوم الذي تتعرض له كي تصمد. ثانياً، يجب أن يعترف النظام الليبرالي في حقبة ما بعد معاهدة «وستفاليا» بالدور الأساسي للدين والتقاليد والهوية الوطنية في بناء الدول القومية الحقيقية، وإذا تخلينا عن هذه القيم كلها لمصلحة المتطرفين المعادين لليبرالية، فسيضطر الناس للاختيار بين الثقافة والحقوق الأساسية وقد لا يكون خيارهم مُرضِياً.نحن لا نشهد على نهاية التاريخ! حتى أننا لا نشهد على بداية نهاية التاريخ، كما قال تشرشل يوماً، بل ربما نعيش المرحلة الأخيرة من بدايته، مما يعني انهيار الصراع بين التعاون الدولي والهوية الوطنية أخيراً.* ماثيس بيتون* «ناشيونال ريفيو»
مقالات
الشعب الروسي ينقلب على النظام العالمي المعاصر!
15-07-2020